اقتصاد ودولة للبنان في قرنه الثاني

مقال من كتابة حسن شري، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة، نشر في جريدة المدن عدد  ٢٩/١٢/٢٠٢٣ على هذا الرابط.

“إن المدى الطويل هو دليل مضلّل للشؤون الحالية. على المدى الطويل كلنا أموات“–جون مينارد كينز.

دخل لبنان واقتصاده في مئويتهما الثانية وسط تغيرات كبيرة في المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي. فلا يزال لبنان يرزح تحت أسوأ أزمة اقتصادية واجتماعية منذ نشأته، بينما تُعيد الدول المتقدمة تموضعها في النظام الاقتصادي العالمي على نحو يُعير الأولوية للاعتبارات الجيوسياسية أكثر منه للاعتبارات القائمة على اقتصاديات السوق والعولمة.
وقد تجلى هذا التغيّر على أفضل وجه في إعلان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان عن انتهاج الولايات المتحدة سياسة “ساحة صغيرة وسياج مرتفع” (small yard, high fence policy) المدفوعة بمخاوف تتعلق بالأمن القومي. وهي تشمل حزمة من السياسات الصناعية التي تطلق العنان لطيف واسع من الأدوات الاقتصادية التقليدية وغير التقليدية، بهدف دعم البحث والاستثمار والتصنيع المحلي في مجالات رئيسية من الاقتصاد، بالإضافة الى تعزيز مشاريع الطاقة النظيفة، والابتكار في أشباه الموصلات والتقنيات المتطورة الأخرى.

في المقابل، تغيب أي رؤية مستقبلية حول الاقتصاد اللبناني. وهنا يبرز السؤال التالي: أيّ اقتصاد نريد للبنان في مئويته الثانية؟ إذا أردنا فعلاً وضع تصوّر لاقتصاد لبنان في قرنه الثاني، علينا أولاً أن نستند إلى معاينة دقيقة ومُحكمة لطبيعة الاقتصاد اللبناني ودوره في مئويته الأولى، ومن ثم استخلاص العبر.

المئوية الأولى: أربع حقبات شهدت تشكُل الاقتصاد اللبناني وانهياره
الحقبة الأولى امتدت من نشوء دولة لبنان الكبير سنة 1920 في ظل الانتداب الفرنسي وحتى الاستقلال في منتصف الأربعينيات. كان لبنان خلالها مُرتكزاً للسوق التجاري-المالي-النقدي المُوحّد على كامل جغرافيا الانتداب، وبيروت عاصمته. وقد تشارك عملة واحدة ومصالح مشتركة مع سوريا، بالإضافة إلى حرية انتقال السلع والبضائع والأفراد بين البلديْن.

أما الحقبة الثانية فتراوحت ما بين الاستقلال وعشية الحرب الداخلية في منتصف السبعينيات، ولها عنوانان: أولاً، القطيعة بين لبنان وسوريا في أعقاب تفكيك الاتحاد الجمركي بين البلدين في عام 1950؛ وثانياً، أصبحت السياسات الاقتصادية في لبنان مرتبطة بالدور الذي كان من المُفترض أن يلعبه في مقابل محيطه الإقليمي. ولعل الدور الأبرز للاقتصاد اللبناني في تلك الحقبة كان مواجهة التغيرات التي شهدتها دول المنطقة بعد موجات الاستقلال فيها، وعبورها نحو الأنماط الاشتراكية للتنظيم الاقتصادي. حينها تم اعتماد السرية المصرفية سنة 1956، فتعزّز الدور الاستقطابي للأموال، بينما تم الحفاظ على الحد الأدنى(1) من الإنفاق العام على السلع العامة كالتعليم الرسمي، والاستشفاء، والدفاع.

أما الحقبة الثالثة التي بدأت في السبعينيات مروراً بالحرب الأهلية، فقد شهدت تزامناً لأمرين أساسييْن: تنامي المداخيل الريعية الآتية من دول الخليج في خضم ارتفاع أسعار النفط العالمية؛ واندلاع الحرب الأهلية، برهاناتها السخيفة والمدمّرة في آن، والتي أفضت إلى تبدّد بنيان الدولة وتقاسمه بين الأطراف المتنازعة. فكانت النتيجة ترسّخ الشعور بالهزيمة لدى المواطنين والمواطنات، وازدياد موجات الهجرة.

والحقبة الرابعة امتدت منذ التسعينيات وصولاً الى أزمة النظام السياسي الاقتصادي في سنة 2019. تلك الحقبة كانت ترتيباً مُحكماً للهدنة بين الفئات المتقاتلة خلال الحرب، وكانت أبرز صِيَغها التعامل مع إرثها من خلال شراء السلم الأهلي بالديْن -أي مراكمة المديونية تحت مسمّى الودائع- حيث لعبت السياسة النقدية دوراً شرساً في خدمة ذلك الترتيب عبر استخدام رصيد مصرف لبنان من العملات الأجنبية.

اللافت هو أن النموذج الاقتصادي اللبناني الذي ساد منذ الاستقلال شابته تشوهات كبيرة، ولا سيما في العقود الثلاثة الماضية، فكانت النتيجة أن لبنان وقع في أزمة غير مسبوقة عكست إفلاس الصيغة الاقتصادية التي كانت سائدة. فالاقتصاد في لبنان لم يكن حراً أبداً على الرغم من إقرار وثيقة الوفاق الوطني “الطائف” في الفقرة “و” بأن “الاقتصاد حرّ”، ليُصبح السؤال حرٌّ من ماذا ومن أي قيود؟ على أن الريوع والاحتكارات هي التي بقيت حرّة خلال مئوية لبنان الأولى من أي اعتبارات للمصلحة العامة، ولنا على ذلك أمثلة عدة تبدأ بالصناديق الميليشياوية والتلزيمات السياسية ولا تنتهي بالتحلّل من قيود المحاسبة العمومية من موازنات وقطوعات حساب، إلى قانون النقد والتسليف، إلى مخطط “بونزي” العصر.. إلخ.

الواقع اليوم والمُقاربة الاقتصادية المنشودة
إن الأزمة الاقتصادية في لبنان ومفاعيلها على المجتمع فيه يتم التعامل معهما بعجزٍ ولا قرار مُطلقيْن. فقد تُرك المجتمع لأن يتكيّف مع واقعه عبر التالي: هجرة كثيفة وسط تفكّك المؤسسات والإدارات العامة من جهة، وتنظيم التمويل الخارجي، من جهة أخرى، حيث أصبح كل طرف سياسي لديه كفيل خارجي يمده بالمال، فتحوّلت قنوات توزيع المال من قنوات توزيع مركزية -أي الدولة- إلى قنوات توزيع لا مركزية أشبه بالمخيمات.

لعل من نافلة القول إن العبور إلى اقتصاد يكون في خدمة المجتمع ليست قضية آليات تلقائية أو حلول تقنية، وذلك لسببيْن: الأول هو أن الأزمة ليست ناجمة عن نقص في المشورة الاقتصادية والسياساتية، وأما الثاني فهو أن المجتمع اليوم يختلف كثيراً عن المجتمع الذي يحاول الاقتصاديون التقليديون تطبيق متخيّلهم الاقتصادي عليه.

من هنا، لا بد من التأكيد على أن الانتقال إلى اقتصاد سليم في لبنان شرطه تفعيل مسار توزيع الخسائر والموارد بشكل عادل. فكلما انتظرنا صار الحلُّ أصعب. الإجراءات الفورية في هذا الصدد هي كالتالي:

1) وقف التلاعب بمأساة المودعين، وإعلان إفلاس القطاع المصرفي. فلنذهب الى إعادة هيكلة المصارف وضمان استعادتها لوظيفتها الأساسية في تأمين الوساطة المالية وتشجيع الاستثمار.

2) الإقرار بالحاجة إلى عملة وطنية واستعادة السياسة النقدية، التي من دونها لا قدرة للاقتصاد على إدارة المفاضلات بين الأجيال وبين الطبقات، في إطار نموذج اقتصادي واجتماعي متوازن يراعي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب الاعتبارات المتعلقة بالاستقرار الماكرو-اقتصادي والمالي.

3) إجراء تعداد سكاني من أجل فهم المجتمع بتركيباته العمرية والطبقية والمهنية، وبالتالي التعامل مع المجتمع بواقعه وليس بمتخيّله.

4) إرساء منطق الحقوق بديلاً عن منطق التسوّل والاستزلام.

أما النموذج الاقتصادي المرجو في لبنان في مئويته الثانية فهو اقتصاد يرتكز على ثلاثية المهارات-الإنتاج-التصدير، وهي ثلاثية نقيضة لتلك التي سادت منذ التسعينيات، والتي ارتكزت على ثلاثية الهجرة، والاعتماد المفرط على التحويلات الخارجية، والاستثمار في الأنشطة الاقتصادية الريعية، ولا سيما القطاع العقاري وغيره من القطاعات غير المدرّة للعمالة اللائقة، وذات القيمة المضافة المتدنية، والمحتوى المعرفي والتكنولوجي المنخفض. ولا مناص من تجيير المالية العامة، والسياسة النقدية، والعلاقات التجارية والاستثمارية في خدمة هذه الرؤية.

إن التوصيات أعلاه تشكّل ركائزَ أساسية لاقتصاد بديل يرسي شرعية دولة واثقة. لكنها أيضاً تساهم بمنع تبديد بشكل كلّي للمكتسبات التي راكمها الاقتصاد والمجتمع في لبنان في مئويته الأولى كالمقدرات المعرفية، والرأسمال البشري، والطاقات الاغترابية، والأسواق التخصصية، والذهب إلخ. لكن هذا التحوّل يحتاج إلى الإقرار بضرورة وجود دولة، وإلى قيادة سياسية قادرة على إدارة الانتقال بالاتجاه المنشود.

(1) العهد الشهابي كان استثناءً، ولكنه لم يدم طويلاً.
(*) جزء من محاضرة ألقيت ضمن مشروع لبنان في قرنه الثاني: رؤية مستقبلية، بتاريخ 9 تشرين الثاني 2023.