لبنان بين شفاء مجتمعه والمشروع الصهيوني: إما هذا أو ذاك!

مقال للرفيق الان علم الدين والرفيقة شادن معلوف  تم نشره في النهار في تاريخ ٢٤ آب ٢٠٢٣

غالباً ما تنقسم آراء اللبنانيين حول القضية الفلسطينية بين موقفين نقيضين: الأول يعتبر أنه يمكن عزل مسألة احتلال فلسطين متى تحرر لبنان، ويستذكر مع موقفه تعديات بعض الفلسطينيين في لبنان في القرن الماضي كمبرّر لعدم الوقوف إلى جانبهم، والثاني يشير إلى المآسي التي عانى منها الشعب الفلسطيني على يد غزاته ليبرّر الحاجة لمناصرة قضيتهم ويربط ذلك عادة بموقف أخلاقي عام. إلا أن المقاربات العاطفية أو الأخلاقية لا قيمة فعلية لها في السياسة. فمن جهة، تضامن الشعوب العربية مع فلسطين لم تمنع أنظمتهم عن التطبيع مع العدو أو عن الإعراب عن استعدادها له؛ ومن جهة أخرى، ما يحكم العلاقات بين الدول هو، في واقع الحال، المصالح لا المشاعر. وهنا يأتي من يقول إن على لبنان البحث عن مصلحته أولًا قبل التفكير في الفلسطينيين. فأين تقع مصلحة لبنان؟ وما الموقف من المشروع الصهيوني الذي تستدعيه مصلحتنا الوطنية؟

لم يأتِ مسعى هذا المشروع الصهيوني لتأسيس “دولة خاصة باليهود” دون تكلفة باهظة، ليس فقط على الفلسطينيين المنكوبين، ولكن أيضًا على لبنان: من مجازر العدو بحق اللبنانيين بدءًا من عام 1948، إلى هجومه على مطار بيروت عام 1968، وصولًا إلى تدخله المباشر وغير المباشر في الحرب الأهلية اللبنانية واحتلال أراضٍ لبنانية، وطبعًا التطهير العرقي لمئات ألوف الفلسطينيين ودفعهم إلى اللجوء إلى لبنان ومنعهم من العودة إلى ديارهم، ما يشكّل تعدياً مستمرًّا ليس فقط على المهجّرين بل أيضًا على المجتمع المستضيف لهم، وغير ذلك الكثير من التعديات. ولكن، ماذا لو لم تقم إسرائيل بكل هذه التعديات؟ ماذا، على سبيل المثال، لو كانت فلسطين “أرضاً بلا شعب” (على حد زعم بروباغاندا العدو) ولو تمكّن الصهاينة من استيطانها من دون إحداث النكبة؟ وماذا لو وقّع لبنان مع إسرائيل “اتفاقية سلام” حالت دون اعتداءات إسرائيل العسكرية عليه؟
تستدعي بلورة الجواب عن هذا السؤال أولًا تشخيص واقع المجتمع اللبناني، ومن ثم تحليل وقع العقيدة الصهيونية عليه. فإن أسوأ ما يعاني منه مجتمعنا ليس “فساد الطبقة الحاكمة” ولا “الطائفية السياسية” ولا “احتلالًا إيرانيًا” ولا “حصارًا أميركيًا”، بل حالة من العلاقات المجتمعية التي يمكن وصفها بالقبلية. فالحديث اليومي متّسم بمنطق الـ”نحن” والـ”هم”، والمناطق إما “مناطقنا” أو “مناطقهم”، وحتى النظرة إلى الخارج يحكمها انتماء المرء الطائفي. لا عجب بالتالي أن يعلو الصوت المطالب بالفدرالية، أي الرضوخ لواقع هذا الشرخ المجتمعي وترسيخه بدل مقاومته. فحتى الزعماء الذين ينتقدون الفدرالية على الإعلام يطبّقونها على أرض الواقع: مدارسهم ومستشفياتهم ومصارفهم ومصادر تمويلهم وسياستهم الخارجية وطبعًا أمنهم. وإن كان احتلال العدو لأرض الجنوب يبرّر حمل أهل الجنوب (وكل لبنان) السلاح وتشكيلهم تنظيمات عسكرية خارج إطار النظام الطائفي المستعفي عن دوره بحماية مجتمعه وتحرير أرضه، فما الذي يبرّر تشكيل هذه التنظيمات، وهي تحمل مهمة على نقيض مع نظام الطوائف، على أساس طائفي؟ والمثل الأبرز طبعاً هو تشكيل حزب الله على أنه “الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثناعشري” على حد قول أمينه العام؟ وما الذي يبرّر، بعد تحرير الأرض، قراره وحلفائه و”أخصامه” الدخول في النظام نفسه الذي رضخ للعدو، والاستماتة في المحافظة عليه منذ اتفاق الطائف وحتى بعد انكشاف فشله في انهيار الـ2019، ورفض مشروع حزب “مواطنون ومواطنات في دولة” بالانتقال إلى دولة فعلية قادرة على المحافظة على مقدرات المواطنين اللبنانيين العسكرية ونقلها من مقاومة وتضحية طائفة إلى منظومة وطنية ضمن رؤية لبناء اقتصاد ودولة للبنان؟
بالمقابل، يقوم الفكر الصهيوني على الزعم أن يهود العالم يشكّلون شعبًا أو قوميةً واحدة، صاحبة حقوق، ومنها حقّ تقرير المصير، وبالتالي الحق بإنشاء دولة خاصة بهم يعبّرون من خلالها عن إرادتهم الجماعية. أي أنه، بعبارة أخرى، مبني على نفس المنطلق الذي عرضناه أعلاه والذي يفتّت مجتمعنا طائفيًا. وقد ذكر الكاردينال نصرالله صفير ذات مرة، “تستهدف إسرائيل لبنان لأنه لا يمكن لها أن تقبل بوجود دولة ديمقراطية فيه، كون الديمقراطية هي النقيض الأيديولوجي للصهيونية”. فلا يمكن لهذا الفكر المبني على تسييس الهوية إلّا أن يغذي آفة القبلية التي أصابت وتصيب مجتمعنا؛ ولإسرائيل مصلحة مباشرة، بل حاجة وجودية، ألّا يتمّ أي انتقال في لبنان من نظامه (أي “تركيبته” المجتمعية) الطائفي إلى سلطة دولة حقيقية، أي أداة تدير شؤون مجتمعها. لهذا السبب، المشروع الصهيوني عدوّ لنا. ولذا، فإن الاعتراف بشرعية الدولة اليهودية، كما جرى من خلال التوقيع على اتفاق الهزيمة الذي لا يتنازل عن سيادة لبنان على غازه ومياهه فحسب بل يعترف بما يسمّيه “حقوق إسرائيل”، وحتى الاستعداد للاعتراف بها من خلال المبادرة المسمّاة “عربية” والتي تبناها لبنان، يشكّلان تهديداً لبنية ولحمة مجتمعنا ومجتمعات المنطقة. فكيف نعترف بـ”حق” وجود دولة خاصة باليهود ونرفض الاعتراف بالـ”حق” ذاته للموارنة والسنة والشيعة والدروز؟ لا يمكن لمجتمعنا أن يشفى من مرضه بوجود مشاريع هوياتية: فإما أن يُفكّك مجتمعنا (أي نحن!) أو أن تفشل تلك المشاريع، وعلى رأسها المشروع الصهيوني.
ما العمل إذًا؟ تمتين مجتمعنا داخلياً وحمايته من منطق الهويات الطائفية من خلال وضع أسس دولة مدنية قادرة على التعامل مع الطوائف الموجودة في مجتمعنا وهواجس كلّ منها كحالة استثنائية يحملها عدد كبير من أبناء مجتمعنا نتيجة تاريخنا، لا هي وهمية يمكن القفز عنها ولا هي ثابتة لا تتغيّر. أي، عملياً، دولة يتمّ من خلالها التعامل عقلانياً مع التاريخ الصعب لبلدنا وما نتج عنه عبر، على سبيل المثال لا الحصر، منهج دراسي موحّد يعرض بدقة وصراحة آثار الخيارات التي مرّت على مجتمعنا؛ وتضع سياسات كالتغطية الصحية الشاملة وسياسات ضريبية جدية لتأمين حقوق مواطنيها وسياسات لتوزيع هادف للخسائر للحدّ من نزيف الهجرة والمحافظة على عنصر الشباب وبناء اقتصاد معافى؛ وتعمل على التأثير بمحيطها لتصبح شرعية الأنظمة مدنية وقادرة على مواجهة المشروع الصهيوني، بداية من سوريا ذات التأثير الحيوي على لبنان. ولأن زعماء الطوائف عاجزون عن اتخاذ هذه القرارات لكونها النقيض التام للنظام الذي أنتجهم، لا مفرّ من انتظامنا السياسي لقلب موازين القوى وفرض انتقال من نظام القبائل إلى دولة حقيقية، قادرة على حماية مجتمعها من تفككه بسبب نظام ائتلاف الطوائف في الداخل، كما تفككه ومجتمعات المنطقة بسبب المشروع الصهيوني.