معركة توزيع الخسائر: تضليل ومصالح على أنقاض العدالة
لنبدأ بالحقائق البديهية، لأن النقاش في البلد غالباً ما يقفز فوق الحقائق لتضيع العدالة بين تضليل وكليشيهات يكرّسها إعلام رديء ومأجور. ويا للصدف، يصب ذلك دوماً في خدمة أصحاب المليارات والنفوذ. البديهيات إذاً: نحن نتحدّث عن توزيع خسائر، وليس عن تعويضات عن خسائر، وليس عن إعادة أموال مسَّها بلل أو حريق. نحن حرفياً نوزّع خسائر، أي عملية تحديد كم سيخسر فرد ما مقابل كم سيخسر فرد آخر، أو نسبة الخسائر التي ستتحملها فئة من الناس مقابل فئة أخرى. كل كلام عن توزيع الخسائر يجب أن ينطلق من هذه الحقيقة: إن الخسائر محققة وقائمة ومنجزة والصراع الآن هو من سيتحمّل خسارة أكثر ممّن وما نسبتها.
كل من يحدّثكم عن قدسية ودائعكم أو إعادة تكوينها أو حمايتها يقوم بتضليلكم. أمّا هو، فيدرك الحقيقة بمرارتها ويقوم بكل ما بوسعه لكي يبعد عنه وعن الفئة التي ينتمي إليها أكبر قدر ممكن من الخسائر. يعرف أنها معادلة صفرية، أي أنه إذا نجح في تحميل الفئة التي ينتمي إليها خسائر أقل يكون قد قام بتحميل فئة أخرى قد تنتمي أنت إليها خسائر أكبر. بالتالي، المسألة الجوهرية هي أن تحدّد الفئة التي عليك أن تتوحّد معها لكي تحمي مصالحك، وأن تدرك في الوقت عينه من هو خصمك في هذه المعركة. إذاً هي معركة، وهي بدأت منذ لحظة الانهيار الأولى، لكن لسنا بعد طرفاً فيها، بل نحن الآن وقودها وضحاياها، مع أن كل هذه التجاذبات عن خطط تعافٍ ومشاريع «كابيتال كونترول» تعني كل فرد منّا مباشرة، حتى لو لم نملك يوماً حساباً مصرفياً. توزيع الخسائر لم يتوقّف وهو يحصل بصورة ظالمة ومجرمة. يستمر صرف ما بقي من ودائع وتهريبها كل يوم، ويتم التحضير لبيع الذهب وكل ملكنا العام، ملك الشعب. الضحية الأولى في المعركة هم فقراء هذا البلد، معظمهم ليسوا مودعين، ويتحمّلون كل لحظة الكلفة الأكبر من الخسائر عبر تدني قيمة أجورهم وقدرتهم الشرائية وتلاشي قدرتهم على الصمود. هؤلاء يموتون بصمت. وهم أيضاً المودعون الذين يقومون بشحذ أموالهم من جلاديهم وعلى سعر صرف أقل من سعر السوق، ومعظمهم باتوا فقراء. والضحية التي لا صوت لها هي جيل كامل من أطفال اليوم ومن لم يولدوا بعد. أمّا المنتصرون في المعركة، فهم أصحاب المصارف والمساهمون فيها، هم الأثرياء أصحاب الملايين والمليارات، هم أقل من 1 في المئة من المودعين يملكون أكثر من نصف الودائع، بحسب محمد زبيب. هؤلاء تمكّنوا حتى الآن من قذف أكبر قدر من الخسائر عن جيوبهم وتحميلها للفئات الأضعف، فقط ليتهرّبوا من دفع كلفة أكبر بقليل. المنتصرون في المعركة هم الظالمون المتسبّبون في الأزمة. تمعّن في ذلك قليلاً.
تذكّر كلّما سمعت أن فئة ما رفضت تحمّل جزءٍ من الخسائر أنها بذلك قذفت بهذه الخسائر على فئة أخرى. لكن هؤلاء لن يجاهروا بذلك، بل سوف يُغرقون النقاش بكليشيهات عن الأموال المنهوبة والتدقيق الجنائي وأن الهيركات سرقة العصر! راقبوا من يقول هذا الكلام، وإلى أي فئة ينتمي، وعن أي مصالح يدافع. هذه الشعارات قد تبدو، لوهلة، أنها خيط أمل، لكنها الطعم الذي يصطادوننا به لنكون جنوداً في معركتهم ضد أنفسنا. نحن غارقون في بحر من التضليل، وأحياناً نسهم نحن به. لا يعقل أن النقاش في البلد لا يزال، بعد ثلاث سنوات على بدء الأزمة، يتركّز حول عودة الودائع. نحن نوزّع خسائر وليس إيرادات. يجب أن ينتقل النقاش فوراً إلى هذه المعضلة لكي نتمكّن من الدفاع عن مصالحنا في وجه من يقوم الآن بتوزيع الخسائر على حسابنا ووفقاً لمصالحه هو. قد نتوصّل إلى نتيجة أن العدل يقضي ألّا تخسر فئة معيّنة أي فلس، هذه الفئة تكون قد تحمّلت صفر خسائر فاستعادت وديعتها بالكامل، ليس لأن وديعتها مقدسة بل لأن فئة أخرى ارتضت، أو فُرض عليها، أن تتحمّل خسارة أكبر بقليل… وهكذا دواليك.
الصراع الفعلي هو هنا فيما يتم إلهاؤك بأمور أخرى وتطويعك عبر بيعك الأوهام. ليس من مصلحة مشتركة بيننا وبينهم. هم أو نحن. ليس صحيحاً أن مصلحة أصحاب المصارف هي من مصلحة المودعين. بل إن تحمّل صاحب المصرف جزءاً من الخسارة يعني تحمّل المودع خسارة أقل. ليس صحيحاً أن المودعين كلّهم فئة واحدة، فإن تحمّل كبار المودعين خسارة أقل تعني تحميل صغار المودعين خسارة أكبر. متى حدّدت الفئة التي تنتمي إليها يمكنك عندها البدء بالتفكير بما هو التوزيع العادل. فأنت أيضاً، لو عاد الأمر إليك، قد لا تطالب بعدم تحمّل أي خسارة متى علمت أنك في وضعك الراهن تتحمّل خسارة أكبر، أو أن عدم تحمّلك أي خسارة يعني ظلماً لفئة أخرى. طبعاً ذلك يتوقّف أيضاً على شعورك الوطني وسلّم قيمك الأخلاقية. المهم أن تكون مدركاً لخيارك وتبعاته وأن تكون مقتنعاً به.
لنبدأ بتحديد الفئات في هذا الصراع فيمكننا حينها أن نكون في صلب النقاش عن عدالة التوزيع وما هي أسس هذه العدالة.
الفئة الأولى: هي فئة أصحاب المصارف ومجالس إدارتها. هؤلاء مسؤولون عن الأزمة، لكنهم يرفضون تحمّل أي جزء من الخسائر بل يطالبون الدولة، أي المواطنين، بسداد الأموال التي ديّنتها مصارفهم لمصرف لبنان. هذه الأموال (الدين) هي نفسها أموال المودعين، قامت المصارف بالمقامرة بها (حرفياً) واستثمارها في استثمارات فاشلة (دين لدولة عاجزة)، وفرّطت بها. لماذا قاموا بذلك؟ ليس لدعم الاقتصاد، كما يدّعون، بل كانوا يراكمون عبر هذه العملية أرباحاً فاقت 40 مليار دولار خلال السنوات الماضية. اليوم، يطالبون بالسطو على أملاك الدولة وعقاراتها، أي أملاك اللبنانيين والأجيال اللاحقة، ويطالبون بصندوق يضعون فيه عائدات تجبيها الدولة من الناس على مدى 30-40 سنة مقبلة لسداد جزء من هذه الديون. يقول هؤلاء، رياءً، بأن الدولة إذا دفعت هذه الأموال فهم سيتمكنون من إعادة الودائع. وهم يكذبون طبعاً، لأن هذه الأصول لا تغطي، بأي شكل، قيمة الودائع، هذا عدا عن أن الطرح غير عادل وغير أخلاقي، لأنه يحمّل كلفة الخسارة لأشخاص ليس لديهم أي ودائع بالأصل، ولأشخاص لم يولدوا بعد، ويعفي المتسببين بهذه الخسائر من أي مسؤولية، ويقضي على أي إمكانية للتعافي. هذه الفئة تضم، أيضاً، أصحاب نفوذ، من زعماء ونواب ووزراء وسياسيين، ممّن هم مساهمون في المصارف أو أعضاء في مجالس إدارتها، بالإضافة إلى أفراد من عائلاتهم وحاشية من الإعلاميين المأجورين لديهم. هؤلاء هم حزب المصرف، الحزب الذي حاز على الأكثرية البرلمانية المقنّعة بفضل خطاب أقنع اللبنانيين أن الأولوية الآن، وسط كل هذا الانهيار، هي لتثبيت الخيارات الاستراتيجية الكبرى!
الفئة الثانية: هي فئة المودعين، وهؤلاء فئة تتعارض مصالحها بشكل حازم مع مصلحة أصحاب المصارف. المصرف بالنهاية هو مؤسسة خاصة، فأنت إذا ما قامت أي مؤسسة بسرقة مالك لن تتوقّع من الدولة أن تعيد لك أموالك من الخزينة، بل تطالب الدولة بإجبار صاحب المؤسّسة على دفع أموالك من مال مؤسسته أو من ماله الخاص. أصحاب المصارف مسؤولون عن إعادة ودائع اللبنانيين من رساميل مصارفهم وممتلكاتها ومن ممتلكاتهم وثرواتهم الخاصة وأرباح الربا التي راكموها. يحاول أصحاب المصارف الإيحاء بأن خصم المودعين هو الدولة، كي لا يكونوا بمواجهة مباشرة معهم، وهذا تضليل حقير. لا يمكن أن يقبل مودع خسارة جزء من وديعته إلا إذا كان صاحب المصرف الذي سرق وديعته قد وضع بتصرّف المودعين لديه كل ما بقي لديه من أموال وممتلكات. لا يمكن أن أخسر وديعتي وصاحب المصرف يتنعّم بأموال وضعتها لديه وقد جنى منها أرباحاً طائلة. ليس أمراً طبيعياً أن تكون مسؤولية أصحاب المصارف وضرورة تحميلهم جزءاً من الخسائر مسألة مغيّبة بشكل شبه تام عن النقاش العام. لو أجرى أحد إحصاءً عن مدى تحميل المودعين مسؤولية سرقة ودائعهم لأصحاب المصارف لاكتشفنا حجم عملية التضليل التي خضع لها اللبنانيون منذ بدء الأزمة. يمكن تقسيم المودعين أيضاً إلى: صغار ومتوسطي المودعين وكبار المودعين، ومن ثم تحديد سقف الوديعة لكل فئة. المهم أن تعلم أن مطالبة صاحب وديعة كبيرة بتحمّل خسارة أقل هي مطالبة بأن يتحمّل مودع أصغر خسارة أكبر. بما أن نصف قيمة الودائع مملوكة من 1 في المئة من كبار المودعين، وهؤلاء هم حفنة صغيرة من الأثرياء، وهؤلاء أيضاً راكموا ثروات كبيرة من الفوائد على ودائعهم، بالتالي فإن مصلحة 99 في المئة من المودعين هي في مواجهة الـ 1 في المئة من كبار المودعين. هؤلاء هم كارتيل النفط والدواء وأصحاب الوكالات الحصرية والمنتفعون من الصفقات وناهبو أموال الدولة. إذا ما صادفت زعيماً أو سياسياً أو إعلامياً أو مودعاً يدافع عن أصحاب المصارف فاعلم أنه هو من هؤلاء الـ 1 في المئة أو منتفع منهم.
هناك أكثر من جمعيّة تتحدّث باسم المودعين. ولست هنا بصدد تقييم عملها. هؤلاء هم مودعون ولديهم حقوق ولكن أمامهم مسؤولية مصارحة اللبنانيين والمودعين عن رؤيتهم لتوزيع الخسائر وما هي معايير العدالة التي يرتكزون عليها وبناء على أي سلّم مسؤوليات وما هي خطوطهم الحمراء. هل يرضون ببيع الذهب مثلاً لتحصيل مكاسب أكبر للمودعين على حساب بقية المواطنين؟ هل يطالبون بتحميل أصحاب المصارف القدر الأكبر من الخسائر تبعاً لمسؤوليتهم المباشرة عن تبديد الودائع؟ هل يرتضون بنسبة معينة من الهيركات على حسابات الـ1 في المئة؟ هل تشمل الهيركات الفوائد فقط؟ الأسئلة كثيرة، وعلى أي جمعيّة تدّعي تمثيل المودعين والحديث باسمهم أن توضح رؤيتها الكاملة لتوزيع الخسائر والأساس المنطقي الذي بنيت عليه. يقتصر دور هذه الجمعيّات الآن على ردود الفعل من دعوات للتظاهر وبيانات وتهديد بالتصعيد عند كل طرح بهلواني للسلطة من مشاريع قوانين وخطط تعافي وغيرها، ولم تبادر حتى الآن إلى تقديم رؤية شاملة واقتراحات عملية تؤسس لضغط شعبي واسع. لوغو إحدى هذه الجمعيّات، للمفارقة، مستنسخ عن لوغو جمعيّة المصارف، لكن بشكل معاكس، وهذه الجمعيّة تجاهر بعدائها للمصارف. يلاحظ هنا أن لوغو جمعيّة المصارف هو عبارة عن أسهم على شكل مروحة تصب جميعها في نقطة واحدة، هل المقصود مروحة غسيل الأموال أم مروحة شفاط تشفط المال إلى جيب حفنة صغيرة؟ أمّا لوغو جمعية المودعين، فهو عبارة عن أسهم تدور حول نفسها في حلقة مفرغة!
الفئة الثالثة: هي فئة بقية المواطنين. كل كلام عن أملاك الدولة والذهب وصندوق سيادي توضع فيه أصول الدولة أو صندوق يديره القطاع الخاص ويبقى ملكاً للدولة وكل المسميات الأخرى لصندوق وعائدات مستقبلية وحتى عائدات الغاز هي مخططات لكي يدفع عموم الناس، حتى من ليست لديهم ودائع، والأجيال اللاحقة، كلفةَ الخسائر. أي يدفع الأكثر فقراً القسم الأكبر من الخسائر، وذلك عبر إطالة أمد الانهيار، من ناحية، وعبر ضرائب تستمر لأعوام طويلة، من ناحية أخرى. وكل ذلك لمصلحة أصحاب المصارف. عدا عن أن الأمر غير عادل وغير أخلاقي، فهو يزيد من اللامساواة والتفاوت الكبير في الثروة في لبنان، ويضرب عرض الحائط أي إمكانية لتعافي الاقتصاد والنهوض به. هذا هو المخطط الذي يحصل الآن والذي علينا مواجهته بكل ما أوتينا من وسائل.