لماذا نقاوم ولماذا علينا تخيل بأن واقعًا آخر ممكن؟
على مر العقود السابقة قامت السلطة السياسية بخلق وهم بأن العمل السياسي لا جدوى منه، أو هو مجرد إضاعة للوقت، كما وأنه مرتبط فقط بما يحصل في الخارج على اعتبار أن لبنان مجرد مساحة لتقاسمها. كذلك تم التسويق إلى أن للأفراد أو العائلات ثلاثة خيارات لا غير: فإما الهجرة والخوض في مخاطرها وعوائقها، وإما الانعزال وتدبير الأمور بالتي هي أحسن على أمل “أن تُفرج”، أو الانخراط الكامل بأدوار النظام الطائفي.
صحيح أن الإفلاس قد ظهر للعلن منذ في العام ٢٠١٩، لكنّ زعماء الطوائف وأصحابهم (أصحاب المصارف) قد تمّ تحذيرهم بأن الانهيار آتٍ وأن وضع سياسات لمعالجته ممكن. رغم ذلك فقد عمدا، بالشراكة مع بعضهما البعض(1)، إلى تبديد المجتمع من بشر ومؤسسات وموارد مادية(2). فتم تهجير مُذّاك الوقت إلى اليوم ما لا يقل عن ٤٠٠،٠٠٠ شخص(3). كل هذا تحت مسمى حماية نظام التعايش والتحاصص الطائفي. هل هذا يعني بأن زعماء الطوائف يرَون الناس مجرد أدوات تنتج بشرًا؟ وأنه بكل بساطة يمكن نسيان علاقات الأفراد و”خلق” أناس جدد لإعادة إنتاج نظام العلاقات نفسه الذي أدى إلى الانهيار في بادئ الأمر؟ على الأغلب نعم. فهم لا يرَونا نحن الناس كأرواح تُحترم وتُحصَّن، ولكنهم يرونها مجرد أرقام تستبدل وترمى. هنا تجدر الإشارة بأن زعيم الطائفة هنا هو موقع تكمن فيه السلطة وليس شخصًا بذاته.
وكما ذُكر سابقا في مقال لألان علم الدين(4) فإنّ “السلطة اللبنانية، أي طبيعة العلاقات السائدة في مجتمعنا، قائمة على منطق التناتش؛ ونتش زعماء الطوائف وأصحاب المصارف للمواقع والامتيازات والأموال التي ينعمون بها ليست سوى تجلٍ واحد من بين عدة تجلّيات لمنطق قديم يسبق تزعّمهم لطوائفهم (الكريمة) ومصارفهم (الكريمة هي أيضاً) وهو متغلغل، كما ذكرنا، في المجتمع نفسه. لذا، لا نشاطر رأي من يدّعون أن «الشعب غبيّ وبيستاهلوا كل شي عم يصير فيه»؛ إلّا أننا ننبّه، منذ سنين، من خطر الوقوع في فخ المطالبة بحقوقنا التي تكرّس سلطة الزعيم من خلال توكيله بالقرار وتفكّك المجتمع من خلال وضع مصالح فئاته في تضارب مع بعضها البعض.
لكن عدم المطالبة بحقوقنا لا يعني إطلاقاً التخلّي عنها.”
هنا نأتي لأهمية العمل السياسي الذي يأخذ المبادرة ولا يكون مجرد انتفاضات تخفت رهجتها بعد فترة زمنية أو مجرد مطالبات. وأخذ المبادرة يبدأ من مقاومة الشعور بالانهزام؛ مقاومة الشعور بالذنب تجاه من سرق حقوقنا وكان يرمي لنا الفتات فنشكره عليها؛ مقاومة الشعور بالدين تجاه من ضحّى لأجلنا ولكن نراهم أيضًا يعانون ونحن مكبلين بسبب رفض زعماء الطوائف تقبل عجزهم وانتظارهم لترتيبات الخارج؛ مقاومة السلطة التي ترى الناس مجرد آلات “تُنتج” بشرًا لتستهلك أبشع المنتجات أو مجرد أرقام على لوائح المساعدات وكراتين الإعاشة وعلى لوائح الأموات؛ مقاومة نظام سياسي أدى إلى تدمير مقومات عيشنا، من مأكل ومشرب وعلاقات اجتماعية (5).
لنأخذ على سبيل المثال حرية حركتنا التي تم تقييدها عبر جعل تنقلاتنا مرتكزة على السيارة. فمن جهة تم تقييد حركتنا عبر “حبسنا” في السيارة لساعات بسبب زحمة السير وسوء التنظيم؛ تقييد حركتنا لأن تكلفة التنقل من أسعار المحروقات واستهلاك السيارة والتأمين تم وضعه بشكل كامل على عاتق الفرد. ولتمكين الأفراد من اقتناء السيارة فقد تم تسهيل القدرة على الاستدانة، وهي بدورها تقيّد حرية الأفراد في التحرك بسبب تدهور قدرتهم على سداد الديون، وذلك لأن التكلفة كما ذكرن سابقًا قد أُلقيتْ على عاتق الفرد نفسه. هنا نرى بأن وسيلة تنقل أو تكنولوجيا معينة لديها تأثير سياسي(6)، بحيث استفاد أصحاب المصارف عبر توفير التمويل لشراء السيارة، واستفاد مستوردو النفط ومستوردو السيارات على حساب باقي المجتمع(7). لكن إذا أخذنا النقل العام نرى بأن التكلفة والمخاطر تتوزع بشكل مختلف بحيث يتحمل الفرد جزءًا قليلًا منها. إضافة إلى ذلك، فوجود نقل عام يمكّن الفرد من التحكم بتقسيم الوقت بشكل أفضل بسبب عدم وجود ازدحام ناتج عن العدد المتزايد للسيارات، وبسبب انتظام توقيت المواصلات العامة(8).
قد يحلو للفرد بأن يقول “ما في شي بيمشي بهالبلد” ولكن هنا بيت القصيد وهي القدرة على التخيّل. أوليس من أسس الإيمان، الإيمان بأن واقعًا آخر مختلفًا ممكنٌ؟ فلا ننسى بأنه قبل الحرب كان يوجد قطار وترامواي وكانوا فعّالَيْن. فهذا مثال عن كيف أن السلطة زرعت فينا مُتخيَّلًا، بمساعدة وسائل الإعلام والإعلانات الفارغة، بأن البلد “طول عمره هيك ولا شيء يتغير”، مع العلم بأن كل شيء كان يتغير لمصلحة أصحاب المصارف. هنا أيضًا تكون المقاومة، بتخيّل شكل مختلف لمجتمعنا والعمل لأجله.
المقاومة حتمًا مرتبطة بمتخيّل آخر لحياتنا، الحياة التي نريد أن نعيشها ونستمتع بها، ومرتبطةٌ بمشروع سياسي يُرسي شرعية دولة مدنية ديمقراطية وعادلة، وهي النقيض للمشروع الصهيوني. دولة ترسي الحقوق للجميع من مسكن ومأكل وتعليم(9) وتغطية صحية وغيرها من الحقوق، على حساب أصحاب المصارف ورفاقهم، الذين راهنوا بحياتنا وأموالنا ووقتنا(10).
وكما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. فلنتحمّل مسؤولية هذه الأرض وهذه الحياة.
1 – المُواجهة واجبة تجاه ابتزاز الحلقة الماليّة للمجتمع.
2 – هجراتٌ في الواقع… استقرار في المتخيّل.
3 – دراسة غير مسبوقة تنذر بـ “تغير جذري في النسيج الديموغرافي اللبناني”.
4 – مطالبتنا بحقوقنا تفكّك مجتمعنا!
5 – عقبات وهمية أمام نهضة مجتمعنا.
6 – أزمة النقل من منظار نظام التوزيع.
7 – علي الزين: هذه السلطة عاجزة عن تأمين النقل للمجتمع.
8 – ما هو المجال؟
9 – التعليم في رؤية مواطنون ومواطنات في دولة.
بائعو الأوهام: سرقة الوقت والقدرة على تقسيمه.
مقال من كتابة محمد خير نحاس، عضو حركة مواطنون ومواطنات في دولة