برنامج الحكومة الانتقالية: المشاريع المطروحة والتنسيق الضروري
مقال ل خريستو المر نشر في جريدة الأخبار في تاريخ 28/11/2019
الرؤية متوفرة على هذا الرابط.
أمام سياسة الهروب إلى الأمام التي تتمسّك بها السلطة الاقتصادية والسياسية التي شاركت في نهب البلاد، إما بشكل حيوي وإما بالصمت عن تلك السياسات، صدرت ورقتان نُشرتا في جريدة «الأخبار»، ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» (رسم 1)، وورقة «لقاء الكومودور» لمجموعة من الأحزاب والشخصيّات (رسم 2)؛ وهما تطرحان حلولاً للخروج من الواقع المأساوي الذي يزداد تدهوراً بسبب تعنّت الذين يقفون خلف السلطة.
الورقتان برأينا متكاملتان، تتميّز ورقة «لقاء الكومودور» بطرحها، بتفصيل الإجراءات التي ينبغي على الحكومة الانتقالية اتّخاذها، ومعظمها يندرج في ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة»، ما عدا أربعة، ألا وهي: قانون استعادة الأملاك والأموال المنهوبة، دعم الجامعة اللبنانيّة، حماية البيئة، النقل العام، والحق في السكن.
تتميّز ورقة «لقاء الكومودور» باقتراح نوع من مراقبة للحكومة الانتقالية تقوم بها الانتفاضة (ومجالسها المناطقية المقترحة)، والنقابات، ومنابر للمتخصّصين. إن اقتراح إنشاء منابر محلية يشوبه الكثير من الصعوبة العملية، برأينا؛ أما المشكلة التي يجب تجنّبها في موضوع منابر الاختصاص، فهي تسلّل الاختصاصيين والنقابيين المأجورين إليها. وتتميّز ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» بأنّها تحمل رؤية واضحة متسلسلة منطقية جريئة ومتكاملة، تهدف إلى بناء دولة مدنية، قائمة على تحليل ثاقب للواقع من عدّة جوانب، وهذا ما تفتقر إليه ورقة «لقاء الكومودور» التي اقتصرت على اقتراح إجراءات غير متّسقة في سياق تغيير البنى المولّدة للأزمة الحالية.
تتناغم ورقتا «لقاء الكومودور» و«مواطنون ومواطنات في دولة» ولكن تتميّز الأخيرة بخطة زمنية واضحة
إن أيّ رؤية لمستقبل البلاد، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار بُعدين:
١- موضوع الأمان الاجتماعي، ومواجهة حالة الإفلاس الحالي
٢- تماسك المجتمع والدولة من خلال:
٢. ١ – تغيير البنى المولّدة للتمزّق المجتمعي والانهيار الاقتصادي. وذلك بتغيير بنية الاقتصاد وأسس الانتخابات النيابية والبلدية، وذلك لإنتاج (1) نظام اقتصادي متين يعمل من أجل معظم الشعب لا طبقة الـ1% الأكثر ثراءً، (2) نظام سياسي مستقر يعطي السلطة للشعب لا لمن يستغلّون الطوائف لمصالحهم، وذلك للخروج من النظام الفاشل الحالي الذي استُعمِلَ لتمزيق المجتمع وتحكّم طبقة مالية ــ سياسية فيه، وأدّى إلى الحروب والإفلاس.
٢. ٢- إمساك الدولة بالعلاقات مع الخارج من خلال رؤية واضحة لمصلحة البلاد، وذلك للمحافظة على استقرار البلاد وبناء قدرة الدفاع عنها، عوض إهمال الدولة وجيشها وإضعافهما استجابةً لإملاءات خارجية، والتخلّي عن الدفاع الوطني إلى حركة مقاومة ناجحة حمت البلاد، ولكنّها تبقى حتى اليوم خارج الدولة.
في ما يلي، سنقرأ كيف تعالج الورقتان المذكورتان هذين البُعدَين.
١- بُعد الأمان الاجتماعي وضبط مفاعيل الإفلاس
الأمان الاجتماعي
ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» تبدأ بالأساس: جمع المعلومات الخاصة بالوضع المالي في الداخل وفي الخارج. تتبع ذلك فوراً حماية المجتمع من التفكّك بإرساءٍ فوريٍّ لشبكة أمان اجتماعية عبر التغطية الصحية المجانية. هذا يمنح الطبقات الفقيرة والمتوسّطة القدرةَ على عبور السنوات الصعبة المقبلة. تتّفق الورقتان على ضرورة تأسيس شبكة الأمان (والأمن) هذه.
ضبط مفاعيل الإفلاس
كما تتّفق الورقتان على ضرورة القيام بإجراءات لضبط الوضع المتدهور؛ فتقترح ورقة «لقاء الكومودور»: المحافظة على استقرار الليرة، ووضع نظام ضريبي عصري عادل يزيد نسبة الضرائب للأكثر ثراءً، ووضع ضريبة استثنائية على المصارف لاستعادة جزء من أموال الدولة التي حصّلتها من الأرباح الخيالية، وكسر الاحتكارات، ومكافحة التهريب، وتفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وإقرار قانون استعادة الأملاك والأموال العامة المنهوبة؛ وتقترح ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» إجراءات لتأمين العدالة الاقتصادية من خلال هيكلة العلاقات المالية والاقتصادية وتوزيع الخسائر وحماية المدّخرات، والضمان وصناديق النقابات. ورقة «لقاء الكومودور» أكثر وضوحاً، بينما ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» تذكّر بضرورة القيام بتعيينات إدارية وقضائية وأمنية لحماية هذه الخطوات.
٢- بُعد تماسك المجتمع والدولة
٢. ١ – إرساء شرعية الدولة المدنية: تغيير البنية الاقتصادية وأُسس الانتخابات النيابية والبلدية
تغيير بنية الانتخابات النيابية والبلدية
تتّفق الورقتان على ضرورة سَنّ قانون انتخابات بلدية ونيابية واتّباع النسبية؛ ويختلفان بشأن محتوى القانون إن كان ينصّ على تمثيل نيابي خارج القيد الطائفي بشكل كامل («لقاء الكومودور») أم بشكل جزئي («مواطنون ومواطنات في دولة»)، إذ تطرح هذه الأخيرة أن يختار الإنسان بشكل حر أن يكون مواطناً من دون انتماء إلى طائفة أو عبر الانتماء إليها؛ وتالياً تقترح نظاماً انتخابيّاً، يقوم فيه الفرد بانتخاب مرشحين ومرشحات لا ينتمون إلى أيّ طائفة بحكم أحوالهم الشخصية، أو ينتمون إلى المنظومات الطائفية؛ وتوزّع المقاعد بين التمثيلين المباشر والطائفي بحسب نتائج الانتخابات (أي خيارات الناس)، ويبقى «التوازن» بين الطوائف فقط في الجزء الطائفي من مجلس النواب. هذه العملية تبدو غريبة، لكنّها تُبقي القرار بيد الشعب بحيث يقرّر كل إنسان أي نوع من الانتماء إلى الدولة يريد، وأيّ نوع من التمثيل في مجلس النواب يريد؛ وهذا يجنّب الحكومة الانتقالية القيام بتغييرات جذرية في الممارسة الحالية (إلغاء تام للطائفية السياسية) ومزايدات السياسيين الطائفيين الفاسدين، وتنزع فتيل أيّ ذريعة فتنوية طائفية لأي فريق. وتصبح هكذا كل انتخابات نيابية بمثابة استفتاء للشعب عن أي وجهة يريد أن يتّخذها بالنيابة للتمثيل الطائفي. في جميع الأحوال، يمكن التحقّق المسبق من إرادة الشعب أثناء تعداد المقيمين الضروري الذي تقترحه الورقة. أخيراً، تذكّر الورقة بضرورة الانتخاب على أساس مكان السكن لا مكان الولادة، وورقة «لقاء الكومودور» بضرورة خفض سنّ الاقتراع إلى ١٨ عاماً.
تغيير البنية الاقتصادية
تتّفق الورقتان على ضرورة إجراء تغيير جذري في طبيعة النظام الاقتصادي، بشكل يجعله مُنتجاً قادراً على تأمين حاجات الناس، عوض أن يكون اقتصاداً ريعيّاً تَضْمُرُ فيه مقدّرات البلاد ويُنتج البطالة والفقر والتبعية. لم تقم الورقتان بتحديد تفاصيل هذا التغيير لتعقيداته وضرورة الاختصار على الأرجح. وترد عبارات اقتصادية تحتاج إلى شرح واضح في ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» (بند تعديل أسس النظام الاقتصادي)؛ وبينما أتت الاقتراحات الاجرائيّة لـ«لقاء الكومودور» واضحة، فالورقة بقيت في أجزاء منها في العموميات (نقل عام، سكن، بيئة…) ولم تأتِ في إطار خطّة وجدول زمني واضح كالتي وردت في ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة». المهم هنا أمران: أن يتمّ وضع خطة كالخطة المتينة والواضحة زمنيّاً لـ«مواطنون ومواطنات في دولة»، وكذلك أن يتمّ شرح الأمور الاقتصادية بلغة مفهومة من العموم. ويُحسب هنا أيضاً لورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» أنّها تحلّل الواقع وتسمّي الأمور بأسمائها وتتّخذ موقفاً واضحاً من النهج النيو ــ ليبرالي المدمّر الذي انتهجته الحكومات المتعاقبة.
٢. ٢- إمساك الدولة بالعلاقات مع الخارج
عدا ترابط الخطة في ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة»، تكمن أهميتها في كونها تواجه القضايا الوطنية الكبرى بطرحها رؤية واضحة للعلاقة مع الخارج (إسرائيل وسوريا والمقاومة) بجرأة وبإبداع. إن تجنّب ورقة «لقاء الكومودور» لموضوع العلاقات الخارجية هو نقطة ضعف حاسمة، وذلك أن عدم حسم الخيارات الخارجية في دولتنا المفكّكة والقابعة واقعياً تحت التهديد الخارجي، هو أحد العوامل التي أدّت إلى عدم تسليح الجيش بأسلحة دفاعية فعّالة، وبالتالي إلى عدم قدرته على مواجهة إسرائيل، وبالتالي إلى إرساء وضع غير عادي في الدول المستقرّة، ألا وهو استمرار أحد الأحزاب بالتمسّك بالسلاح ليقاوم وحده إسرائيل. إنّ بند «تنظيم العلاقة الجدية مع الخارج» في ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» يواجه ثلاثة إشكاليات:
(أ) إسرائيل التي قرأت فيها الورقة مشروعاً عنصريّاً دينيّاً عدوانيّاً يتعامل مع المجتمعات بوصفها طوائف، ويسعى إلى تعزيز العصبيات العنصرية، وبالتالي يدكّ الشرعية الداخلية للأنظمة المدنية. لذلك، هو مشروع عدوّ لأنّه يتعارض مع الدولة المدنية خشبة الخلاص للبنان، ويتناقض وجودياً معها.
تطرح ورقة «مواطنون ومواطنات في دولة» رؤية واضحة للعلاقة مع الخارج
(ب) سوريا حيث العلاقة معها كدولة قائمة ليس على المشاعر وإنّما ــ ككلّ علاقات الدول ــ على المصالح المتبادلة. ومع سوريا هناك علاقات اقتصادية (تصدير، إعادة أعمار) وتشوّهات اجتماعية (تهجير) من مصلحة الدولتين حلّها بالتعاون.
(ج) وأخيراً، بالنسبة إلى الموضوع الأكثر حساسية ألا وهو العلاقة مع المقاومة، فتعتبرها الورقة رصيداً للبنان تجب حمايته واستثماره في آليات الدفاع عن الوطن ولكن ينبغي ــ من خلال الحوار ــ أن تصبح المقاومة جزءاً من منظومة الدولة العسكرية والاجتماعية والاقتصادية، أي أن تصبح جزءاً من منظومة وطنية (أي بمنطق اليوم: عابرة للطوائف)، ولا يمكنها أن تبقى كياناً قائماً بذاته خارج سلطة دولة مدنية قادرة مرجوّة. أدبيات «مواطنون ومواطنات في دولة» تَذْكُرُ مثال سويسرا التي رغم «حياديّتها» تدرّب شعبها على السلاح بحيث يكون جاهزاً لمقاومة أيّ اعتداء. لا ينقصنا في لبنان الفكر لابتكار طرقٍ في الدفاع تدمج الخبرة والقدرة القتالية للمقاومة الشعبية في بنية دولة مدنية قادرة، تستمدّ شرعيّتها من الشعب لا من الطوائف.
خلاصة خطّة واضحة واقعية مبنية على معرفة
إنّ ورقتَي «لقاء الكومودور» و«مواطنون ومواطنات في دولة» تتناغمان، ولكن الأخيرة تتميّز باحتوائها خطة زمنية واضحة، بخطوات مترابطة، بدءاً من ضبط تبعات الإفلاس الحالي، وإرساء شرعية الدولة، وانتهاءً بالعلاقات الخارجية. هي خطة مترابطة، بأهداف مرحلية تحقيقها يؤدي إلى تحقيق هدف أخير: بناء دولة مدنية قادرة على الإنتاج والنهوض الاقتصادي وعلى الدفاع عن نفسها. وتأتي اقتراحات ورقة «لقاء الكومودور» بإجراءاتها متناغمة مع هذه الخطة، لكنّ غياب الرؤية للسياسة الخارجية يُضعف الورقة؛ لكن، لا نرى منطقيّاً كيف يمكن لأحزاب تريد أن تبني دولة قادرة بالفعل، في الموقع الجغرافي والتاريخ السياسي للمنطقة التي يقع فيها لبنان، ألا تتبنّى الرؤية الوطنية المبدعة لورقة «مواطنون ومواطنات في دولة».
إنّ الإجراءات مهمّة، والأهم وضوح الرؤية وترابط الخطة. نرجو أن يتم التعاون بين التيارات الشريفة (وأن ينضم إلى الانتفاضة من يعاديها عن قلق) فالإرث لعينٌ حقّاً، والتعاون يمكن أن يحمي من المتسلّقين على الانتفاضة، ومن المرتزقة، خبراء الانتهازية واختصاصيّي الاستغلال. الوصول إلى نظام إنساني يحتاج إلى تعاون الأنقياء، يكفينا عداءُ مَنْ صنعوا هذه الجريمة.
* أستاذ جامعي