سقوط قشرة الحضارة

مقال لابراهيم حلاوي، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة نشرت في جريدة ١٧ تشرين بتاريخ ١٠ حزيران ٢٠٢٠ على هذا الرابط

بدأ المجتمع بالتّفكّك، وانكمش الاقتصاد من غير رجعةٍ إلى نموٍّ زائفٍ. سقوط من غير رجعة.

من حقّنا أن نحزن على هذا السّقوط المأساويّ لمجتمعنا واقتصادنا. لا عيب في حزننا على الإنسان في هذا البلد، كلّ من خُلق فيه ومن علِق فيه.

نحزن كثيرًا من دون أسفٍ أو ندم. نحزن من دون أن نتحسّر على انتهاء هذه المرحلة المزيّفة من تاريخنا، حين قرّر المسؤولون، وبالإجماع، تلبيس الحرب والتّخلّف قشرةً حضاريّةً، والتّغنّي بها في الخارج؛ حتّى اقتنع المجتمع نفسه بأنّ الحضارة أساسه وباطنه، وأنّ التّخلّف والحرب دخيلان عليه ولا يمثّلان تعايشه الحضاريّ الأهليّ السّلميّ الميثاقيّ.

اعتمد هذا النّجاح الباهر للقشرة الحضاريّة على العلاقات المادّيّة في المجتمع ما بعد الحرب. بُني اقتصاد ما بعد الحرب على الإستيراد والإستهلاك بقروضٍ ميسّرةٍ. بالمقابل، حافظ هذا الاقتصاد على علاقات إنتاجٍ متخلّفةٍ، أقرب إلى زمن الإقطاع؛ أي أنّ المجتمع اللّبنانيّ استورد البضاعة الحديثة لاستهلاكها، من دون تطوير وسائل إنتاجه وعلاقات العمل. بقيت الزعامات المناطقية تبتزّ الناس في لقمة عيشها، وفرص عملها، وأبسط حقوقها، كما يفعل الإقطاعي مع الفلاح. في الوقت عينه، كانت هذه الناس المذلولة تركب موجة الاستهلاك، مستثمرتًا في قشرة حضارة بقروضٍ ميسّرة من المصارف.

 هذه التّناقضات الواردة بين كيف وماذا ننتج من جهةٍ، وكيف وماذا نستهلك من جهةٍ أخرى،  سمحت لمجتمعنا بالتّعدّي على الممارسة الحضاريّة، من خلال مستويات استهلاكٍ تشبه – إن لم نقل تتفوّق على – الدّول الصّناعيّة أو المنتجة، يقابلها إنتاجٌ حقيقيٌّ واحدٌ: شباب متعلّم للتّصدير.

الاستهلاك أمرٌ مغرٍ جدًّا، يضعف الفرد أمامه. فما بالك بمجتمعٍ بأكمله وجد أمامه عروضًا مغريةً لاستقدام عمّالٍ أجانب واستعبادهم تحت تشريع قانوني، وعروضًا لتقسيط سيّارة مارسيدس مستوردةٍ من ألمانيا يمكن من خلالها رفع مستواه الاجتماعيّ والحضاريّ المزيّف. هذه التّجربة المادّيّة تصبح عملًا حضاريًّا حداثيًا وغير مزيّفٍ بنظر الفرد، إذا كان المجتمع ككلٍّ اعترف وخضع لها كمقياسٍ حضاريٍّ.

أمّا النتيجة الحتميّة لمجتمع الاستهلاك والمظاهر فهي تطبيع الفكر الطّبقيّ، والّذي بدوره يبرّر الفكر العصبيّ على أشكاله، سواء أكان عرقيًا، عنصريًا، مناطقيًا، طائفيًا أو قوميًا. بمعنى آخر، من يستهلك أكثر هو أعلى شأنًا.

 بتعاونٍ بارعٍ بين التّجّار والمصارف والنّخبة السّياسيّة الحاكمة، وبترحيبٍ وإعجابٍ ودعمٍ خارجيٍّ، استثمر الشّعب اللّبنانيّ ما بعد الحرب بقشرة الحضارة، وكلّ مرّةٍ يتجلّى الباطن الطّائفيّ والرّجعيّ (على كثرة هذه التّجليّات)، تستنكر النّخبة والتّجّار والمجتمع المستهلك بلغاته الثّلاث، بأشدّ العبارات، هذه الحوادث الّتي “لا تمتّ إلى مجتمعنا وعيشنا المشترك بصلةٍ”.

فلا حسرة على نزع القشرة هذه من غير رجعةٍ. ولكن، أيضًا، لا شماتة من مجتمعنا ولا لوم عليه، إذ أن القبول بسلطة الأمر الواقع كان الخيار الوحيد حينها لإنهاء الحرب.

لكنّ هذه التّجربة المزيّفة بالسلم والحضارة، والممتعة (للطّبقات الوسطى بالتّحديد) في آنٍ واحدٍ، قد انتهت. وأصبحنا الآن في مرحلةٍ انتقاليّةٍ شئنا أم أبينا. علينا أن نعترف بزيف النموذج اللبناني للتعايش – أي قشرة الحضارة. وهذا يتطلّب تواضعاً من الجميع، من دون شماتة، إن نجى بعض التواضع من مرحلة الغرور الطبقي.

إمّا أن نتعلّم الدّروس ونحاول، في ظلّ الخراب الوشيك، بناء دولةٍ مدنيّةٍ تُغيّر علاقة الفرد بالإنتاج والاستهلاك، وبالتّالي تغيّر علاقة المواطن والمواطنة بالدّولة وبالمجتمع وتبني اقتصادًا منتجًا ومستدامًا؛ أو يُترك مصير هذا البلد مجدّدًا للزّعامات ذاتها الّتي حافظت على علاقاتٍ إقطاعيّةٍ مع مجتمعنا وسكّنته بمغريات الاستهلاك، وابتزّته بلقمة عيشه المحصورة بفرص عملٍ بقرارٍ من الزّعيم.

من استفاد من هذه التّناقضات لاستدامة سلطته على “مناطقه” وابتزاز النّاس في فرص عملها، لن ينقذ المجتمع. بل على العكس، تراهن هذه الزّعامات على الخوف والقلق من المستقبل لإعادة تغذية العصبيّات وإعادة إنتاج سلطتها على “مناطقها”. يقول البعض إنّها الورقة الأخيرة في يد السّلطة. هي ليست الأخيرة. ولكن، إذا سلّمنا جدلًا أنّها كذلك، فهل يمكن الاستهانة بهذه الورقة في الوضع الّذي نعيشه؟

هذه ورقة آخرتنا!