انتفاضة 17 تشرين، شعاراتها ومآلاتها
مقال بقلم أسامة الشيخ، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة
لمعت انتفاضة 17 تشرين كبارقة أمل وسط الظلام المحدق بنا ليس فقط في لبنان، بل في المنطقة بأسرها. بعد سلسلة حرائق امتدت في أحراج لبنان أصابت الناس بلوعة شديدة وأظهرت السلطة عجزها في التعامل مع الأزمات، خاصةً مع تقلّب سعر الصرف قبل 17 تشرين الأول 2019، شعر الناس بضعف السلطة التي أمامهم وبقلق كبير من بقائها فانقضّوا عليها. آلاف مؤلّفة من الناس نزلوا إلى الشوارع ليعبّروا عن القلق الذي يعيشونه والرفض لما وصلت إليه الحال، دون أن يكون لديهم رؤية أو وجهة واضحة يريدون تحقيقها. في الوقت نفسه حملت الانتفاضة التشرينية تشكيلة من الشعارات والهتافات والظواهر التي يجب الوقوف عندها لفهم دلالاتها ورمزيتها، كما تكثر التساؤلات اليوم عن المسار الذي اتخذته والمآل الذي وصلت إليه.
أبرز شعارات الانتفاضة وظواهرها
في البداية كانت انتفاضة وبرز حينها هاشتاغ “لبنان ينتفض” على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم تحوّلت إلى “ثورة” وصار المتظاهرون “ثوارًا”! كلّما قيل لي “أنتم الثوار” أتخيّل نفسي مثل غسان صليبا في مسرحية صيف 840 أحمل بندقية وأرتدي شروالًا. عادةً لا تُسمى أيّ حركة تغييرية تحصل “ثورةً” إلّا بعد نجاحها حيث يطلق أصحابها عليها هذا الاسم ليعلو من شأنها حتى لو كانت انقلابًا عسكريًّا، مثلَما حصل في معظم الدول العربية. والثورة هي حركة تُغيّر النظام السياسي والاقتصادي وتؤدي إلى إعادة تشكل العلاقات ضمن المجتمع على أسس جديدة. أما 17 تشرين فهي حتمًا ليست ثورة، بل انتفاضة شعبية أو يمكن وصفها باحتجاجات شعبية حاشدة؛ هذا ليس انتقاصًا من قيمتها، إنما هو الواقع، فالمبالغة في استخدام الاصطلاح يؤدي إلى لغط في التشخيص.
لا شكّ أن شعار “كلن يعني كلن” تصدَّر المشهد دون أن يأخذ كثيرًا من الجدال في بدايته، فقد كان هذا الشعار بالذات ضروريًّا ليوحد المتظاهرين الآتين من خلفيات متعددة ومن تبعية لمختلف الزعماء. يجسد الشعار في اللاوعي الجمعي تخلّي الأول عن زعيمه الطائفي في مقابل تخلّي الآخر من الطائفة الأخرى عن زعيمه أيضًا. كما يمكن اعتباره نوعًا من شخصنة النظام ويعبر من خلاله الناس عن رفضهم لكامل المنظومة. الجدير ذكره أن هذا الشعار، كما غيره، أضيف إليه جزء عندما بدأ بعض الزعماء أمثال جعجع والحريري وجنبلاط القفز من مركب السلطة والتلطي خلف الانتفاضة وادعاء نصرتهم لها، فصار الهتاف “كلن يعني كلن وفلان واحد منن” للتأكيد على استتباعه ببقية الزعماء.
من ناحية أخرى، هناك الشعارات المستعارة من الثورة السورية والمصرية مثل “الشعب يريد إسقاط النظام” و”يا (اسم المنطقة) نحن معاكِ للموت”. أثارت هذه الشعارات حفيظة البعض وريبتهم، فما سمّي بالربيع العربي لم يكن تجربة مطمئنة. إضافة إلى تلك المستعارة من ثورات الجوار، هناك المستعارة من النضالات اليسارية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كالردية التي تنتهي بـ”يا شعبي” في كل شطر منها، والتي تتضمن تأييدًا للطبقات الكادحة من العمال والفلاحين وتحدّد أن المعركة طبقية بأصلها وطبيعتها.
أما “الأموال المنهوبة” فقد لاقى هذا الشعار رواجًا هائلًا، حيث اعتُبر أن استعادة المال المنهوب هو الحل لمشكلة الإفلاس، -أو بمعنى أدقّ الضائقة المادية- فالإفلاس حينها لم يكن جليًّا لدى كثير من الناس. التصديق بهذا الأمر مضحكٌ مبكٍ في آنٍ معًا، فهو ينمّ عن قصور عميق في فهم الأزمة وتقدير حجمها، وكأنَّ المال المنهوب موجود في أكياس داخل خزنة المسؤول! حصل الإفلاس بسبب سياسة الاستدانة دون استثمار وتثبيت سعر الصرف لتأمين الاستهلاك دون قيود. ما من مال منهوب أصلًا حتى يستعاد، فالودائع صرفت على الاستهلاك. يعود القصور في فهم الأزمة إلى ترويج السلطة لفكرة أن السياسة لا علاقة لها بالاقتصاد أو المجتمع، بل هي تقتصر على الطائفة والزعيم والانتخابات التي تجدد شرعيته. في السياق عينه جاءت مقولة “لا لتسييس الانتفاضة” وهي مقولة مضحكة مبكية أيضًا، إذ كيف لا يريدون سياسةً وهم في قلب مظاهرة حاشدة ضد السلطة! إن كان هناك فعل يمكن وصفه بسياسي فهي التظاهر. لكن هذه المقولة أيضًا هي صنيعة القولبة والتعمية التي اعتمدتها السلطة على امتداد ثلاثين عامًا، على اعتبار أن السياسة محصورة بالانتخابات والزعيم والطائفة لا كونها تعاطيًا في الشأن العام للمجتمع. هذه الثقافة هي الأساس في وجود معارضة طفولية التفكير أحيانًا؛ وقد وصل الناس إلى الخوف من كل ما يتّسم بأنه عمل سياسي، علمًا أن الاهتمام بشؤون المجتمع والسعي لتحسينها وتقدمها هو شرفٌ للإنسان بقدر ما هو مسؤولية.
من الشعارات الأكثر تحديدًا وعمقًا في معناه ودلالته هو “الدولة المدنية”، و”يسقط حكم المصرف”. يهدف “يسقط حكم المصرف” إلى التصويب الواضح ضد ما فعلته وتفعله المصارف التجارية اللبنانية من ارتكابات وجرائم بحقّ المجتمع والاقتصاد، خاصة مع تنامي دورها غير المبرر والكارثي منذ التسعينيات، وقد وصّف جورج قرم حال لبنان بالقول: “الجمهورية المصرفية والعقارية اللبنانية”. أما “الدولة المدنية” فهو الشعار الحاضر الغائب أبدًا الذي يلمع عند كل منعطف مصيري في لبنان، خاصة وأننا نشهد انهيار نظامِ ما بعد الحرب باعتبار أن قيام الدولة المدنية اليوم هو النقيض التام للطوائفية والزعامتية، وهي الأداة الأساس لتماسك المجتمع بدل الانقسام والاقتتال.
شعار آخر أقل انتشارًا لكنه أكثر تكرارًا في جميع المناسبات، “إسلام ومسيحية إيد وحدة” مقولة منبثقة من صلب النموذج الطائفي اللبناني للتأكيد على فكرة التعايش بين الطوائف، وتأتي غالبًا مع حمل صليب وهلال أو مع شيخ وخوري يشبكان أيديهما. كلمة “تعايش” بحدّ ذاتها تنمّ عن انقسام في المجتمع، فالتعايش يعني اصطناع العيش بعضنا مع بعض. لكنها –أي “إسلام ومسيحية إيد وحدة”- في الوقت نفسه تُعبّر عن إيمان الناس واستعدادهم للعلمانية مستخدمين المصطلحات الطائفية التي اعتادوا عليها.
إلى جانب الشعارات والهتافات المختلفة، برزت ظواهر عدة أثناء الانتفاضة، أولها كثرة بائعي الكعك والذرة والقهوة والأعلام اللبنانية وعبوات المياه الذين وجدوا في هذا الجمع الكثيف من الناس فرصة للرزق. أحدهم أسمى هذه الظاهرة ممازحًا “اقتصاد الثورة”، لكنهم فعلًا كانوا يؤدون وظيفةً في الانتفاضة فيروون عطش المتظاهرين ويسدون رمقهم عند الجوع.
أما الظاهرة الأكثر جدلًا فهي سيل الشتائم الذي انهال في كل الاتجاهات، ومن أبرز هتافاتها كانت الـ”هيلا هو” الشهيرة. لعل الشتيمة هي أصدق تعبير قيل في الانتفاضة، فهي لا وليدة إيديولوجيا ولا كلمات مُصاغة لبلورة توجه سياسي، بل هي التعبير الحرّ عن الغضب والقلق. والشتائم ليست محصورة في الانتفاضة كما توهّم البعض أو حاول إيهام الناس، بل هي ظاهرة اجتماعية منتشرة بكثرة، فإذا مشيت قليلًا في الشارع ستسمع مئة شتيمة تحمل إيحاءات جنسية، وإذا جالست صديقك فستجده يستخدم الشتم في حديثه بشكل طبيعي. الشتيمة والإيحاءات الجنسية تشكّل جزءًا من لغتنا اليومية. بغضّ النظر عن صحتها أو عدمها، وما إن كانت هذه الأدبيات مستخدمة منذ خمسين عامًا أو أنها طارئة على المجتمع، فالشتيمة اليوم صارت واقعًا لدى الناس حتى إننا نجدها أحيانًا تستخدم في معرض المدح والتبجيل وليس الإهانة فقط! إذا الناس في الانتفاضة، وفي لحظة من الغضب العارم، استخدموا لغتهم اليومية التي يعرفونها دون تصنّع ولا مواربة. أما أحزاب السلطة التي راعَها الشتم وأثر في نفسيتها فلم يكترثوا للإفلاس الحاصل منذ 2011 الذي يقضي على أحلام ومستقبل جيل بأكمله دون استثناء. من زاوية أخرى، فالسُّباب هو نوع من العنف المعنوي يمارسه ضعاف الناس العاجزون عن ممارسة العنف الفعلي في ردهم على ما تفعله السلطة، في مكانٍ ما كان هذا نافعًا ربما.
مسار الانتفاضة ومآلاتها:
ما من حتمية تاريخية تفضي إلى التغيير، والتغيير ليس إلّا وليد إرادة وخيار ممن لديهم القدرة أو جهدوا لاكتسابها. منذ الأيام الأولى اتخذ كل واحد من أحزاب السلطة موقفه تجاه الاحتجاجات القائمة، فالقوات والاشتراكي والمستقبل ادعوا “الثورة” متغافلين عن أنهم، بالنسبة للمنتفضين، على رأس قائمة “كلن يعني كلن”، لكن الهدف من وراء هذه الخطوة لم يكن كسب شعبية ما بل الحفاظ على التأييد الموجود لديهم قدر الإمكان لأن جميع الأحزاب دون استثناء خسرت جزءًا من شعبيتها وإن بنسب متفاوتة. في المقلب الآخر وقف كل من حركة أمل والتيار الوطني الحر وحزب الله في مواجهة الناس في الشارع، فسارع الأمين العام لحزب الله بالطلب من مناصريه ومؤيديه الانسحاب من الشارع في محاولة لفصل الشارع إلى قسمين. هذه الخطوة لحقت بها، بعد فترة، خطوة أخرى هي نزول عدد من الشبان لضرب المتظاهرين رافعين شعارًا يكاد يكون وحيدًا لديهم هو “شيعة شيعة”. هذا الشعار لا يهدف لشد العصب الطائفي بقدر ما يهدف لاستثارة شارع طائفي مقابله، وقد نجح فعلًا مع بزوغ شعار “الطائفة السنية بخطر” و”نحن نموت والسنة تعيش”. من الملفت أن الشباب الذين رفعوا الشعارين قد تعالوا عن جوعهم وفقرهم وأحوالهم الصعبة كبقية اللبنانيين من أجل طوائفهم!
استمرَّ هذا المسار عبر التوترات الأمنية الطائفية لإعادة الانقسام إلى طبيعته من قبل جميع أحزاب السلطة، وبرز دور عدد من وسائل الإعلام والمواقع على الإنترنت التي اعتمدت الخطاب الطائفي التحريضي والتعميم المطلق في نشر الأخبار. من الصعب على أحزاب طائفية أن تتعامل مع طروحات اقتصادية وقضايا اجتماعية من قبيل حقوق العمال ووضع التعليم والهجرة، لكن تسهل عليها المواجهة بالمنطق الطائفي عندما يكون المختلف طائفيًّا في مقابلها.
في المقلب الآخر كان من الصعب تأطير الانتفاضة تحت قيادة موحدة، فالأحزاب والمجموعات الناشئة خلال الانتفاضة أو قبلها بقليل لم تكن في غالبيتها مستعدة لهذه اللحظة، وبعضها يعاني من المراهقة السياسية وليس لديه وضوح الرؤية في تشخيص الأزمة وطرح حلول لها، إضافةً إلى ضعف الإمكانيات البشرية والمادية لدى بعضها الآخر. حتى هذه اللحظة قلة من هذه المجموعات حاولت بلوَرة بديل سياسي واقتصادي للنظام المتداعي، بديل يحتاجه الناس ليؤمنوا به، فمن السهل الاتفاق على ارتكابات السلطة وجرائمها لكن من الصعب جدًا الاتفاق على بديل فعلي يؤطّر جهودهم ويحاكي خوفهم.
في هذا السياق صاغت حركة مواطنون ومواطنات في دولة رؤيتها التي لم تكن وليدة اللحظة وهي تتخذ المواقف وتعقد التحالفات وفقها، ومؤخرًا خرجت المبادرة – درابزين لتكون مبادرة للتواصل بين المجموعات للوصول إلى اتفاق لتشكيل بديل جدي؛ باستثناء ذلك تقريبًا فمعظم المجموعات تعفّ عن السعي إلى السلطة أي إلى تحمّل المسؤولية دون أن يكون واضحًا عندها كيف يمكن التغيير دون امتلاك السلطة؛ وبعضهم ما زال غارقًا في خطاب مكافحة الفساد المنبثق عن حراك 2015 والذي اعتمدته السلطة سابقًا واليوم هي نفسها تبحث عن خطاب آخر.
بين مكر ذوي السلطة ودهائهم وارتباك مجموعات الانتفاضة وسوء خياراتهم لم ننجح في تأطير الانتفاضة وتوجيهها لتحقيق التغيير المنشود والممكن دون إغفال الصعوبات في تأطيرها أصلًا. السؤال المطروح اليوم هل انتهت الانتفاضة؟ الجواب بنعم فيه إجحافٌ ما، رغم أننا لا يجب أن نتوقع منها أن تعيش إلى الأبد! إلى أن مفاعيلها لم تنتهِ فقد خلقت عند الكثيرين وعيًا أعمق تجاه واقعنا. مسألة الوعي عند الشعوب ليست هامشية على الإطلاق خاصةً من منظور الأجيال، كما أن النضال من أجل التغيير لم ولن ينتهي فـ”درب النضال طويل طويل”. الانتفاضة هي محطة في طريق انهيار النظام الذي كان قائمًا، محطةٌ سبقتها اضطرابات عديدة ومظاهرات 2011 وحراك 2015.
الزمن لم يتوقف ولا التاريخ كذلك، 17 تشرين لم تكن النهاية يومًا، بل هي نقطة التحول في مسار طويل من التغيرات، مسار سيستمر وهو يهدد المجتمع إلّا في حال طرأ انعطاف عليه، وهذا الانعطاف ليس حتمية تاريخية، بل هو نتيجة لخيارات تُتخذ يجب لاستخدام الأدوات الصحيحة والفعالة التي ترقى إلى مستوى التحديات. لا يجب أن نجلد أنفسنا ولا أن يتعاظم اهتمامنا بها فنعتبر أنفسنا قد حققنا “الانتصارات” وتتحول الانتفاضة إلى هدف لا إلى وسيلة؛ 17 تشرين هي لحظة من الغضب المتراكم والقلق الشديد والرغبة والأمل في التغيير بصدق لدى كل من شارك بها في الأيام الأولى أو لاحقًا. علينا أن نقرأ الانتفاضة في سياقها ونقيّم مسارها ونصحح خياراتنا. هنا المسؤولية على المعارضة مضاعفة، أولًا لأنها تبّنت الانتفاضة ورفعت شعاراتها، وثانيًا لأنهم مسؤولون عن إعطاء أمل للناس من خلال الجدية في إظهار بديل واضح يؤمن انتقال السلطة سلميًّا، أي دون الذهاب إلى حرب أهلية ثانية؛ انتقال ليس من فريق سياسي إلى فريق سياسي آخر، بل من حكم طوائف متناحرة إلى دولة مدنية تؤمّن العدالة الاجتماعية وترسّخ شرعية الدولة فتكون قادرة على ردع كل خطر خارجي.