الجريمة المستمرة منذ أربعين عاماً

نقيّة برّي، أم لثلاثة شبّان فُقدوا في الحرب الأهلية. فارقت نقيّة الحياة في الثاني من آذار من هذا العام دون أن تعرف مصير أولادها حسيب وموسى ومحمد الذين فُقدوا في عام 1982 عندما كانوا في طريق عودتهم إلى ديارهم في الجنوب فارّين من الاشتباكات في العاصمة. لم يصلوا إلى المنزل ولم تتوقف نقيّة عن البحث عنهم لمدة 39 عامًا حتى وصلت إلى فراش الموت حيث جعلت أولادها الآخرين يتعهدون بأنّهم لن يوقفوا البحث عنهم أيضًا. هذا بالإضافة إلى أنّ أسماءهم قد أُوردت في بيان نعيها كتذكير لجميع الذين شاركوا في اختطافهم بأن النّضال مستمر لمعرفة مصيرهم. تركت نقيّة هذا العالم وهي مدركة جيدًا أنه بعد الحرب الأهلية، عمل زعماء الطوائف على خلق منظومة تترصّد وتمنع أيّ محاولة من شأنها أن تقرّب الضحايا وذويهم من الحقيقة، حقيقة من شأنها فضح جرائمهم وجناياتهم. تباينت هذه المحاولات عبر الزمن وأصبحت أكثر عنفًا ضد أصحاب الحقوق، وتنوّعت كلّما ترسّخ فساد زعماء الطوائف وكلّما اقترب الأهالي من معرفة مصير أحبّائهم.

انتهت الحرب الأهلية في لبنان بتسوية سياسية لم يدركها من رحلوا والذين قد بلغ عددهم  144,420 قتيلًا، حتّى عام 1992. هذا وقد خلّفت الحرب197,506  من الجرحى، و600 ألف نازح وهجّرت ما يقارب ثلث السّكان. أمّا العدد الذي لا يزال يمثّل إشكالية حتّى اليوم فهو عدد المفقودين والمخفيين قسرًا الذي ظهر لأوّل مرّة على أنّه 17,415 في صحيفة السّفير عام 1992. هذا العدد تمّ تقديره بناءً على من تمّ الإبلاغ عن فقدانهم في مختلف مراكز الشرطة في جميع أنحاء البلاد أثناء الحرب، ولم يتمّ التّحقق من الأسماء لأنّ بعض العائلات أبلغت أكثر من مركز، هذا بالإضافة إلى أنّ أسماء من عادوا لم يتمّ حذفها من القائمة، وبذلك يبقى الرّقم تقديريًّا. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الجمعيّات والمنظّمات غير الحكوميّة قامت بمحاولات عديدة من أجل الوصول إلى رقم أكثر دقة. آخر هذه المحاولات كانت دراسة أجرتها اللجنة الدّولية للصليب الأحمر عام 2012 حيث جمعت قائمة من 3500 اسم. وبناءً على المعلومات التي جمعتها اللجنة من العائلات في الدراسة نفسها، تبيّن أنّ معظم الذين فُقدوا في الحرب هم من فئة الرّجال الذين لا يتجاوز متوسط أعمارهم الـ 28 عامًا وهم من خلفيّات مختلفة. تشير الدّراسة أيضًا إلى أنّ  72٪ منهم كانوا منتجين ويشكلون المصدر الرئيس لدخل أسرهم، وقرابة 82٪ منهم كانوا من المدنيين، أمّا النّسبة المتبقيّة فكانوا من المقاتلين. تمّ اختطاف العديد من منازلهم، أو من الشوارع أو عند نقاط التفتيش التي سيطرت عليها الميليشيات أو القوات الأجنبية. معظم حالات الاختفاء هذه حدثت بين عامي 1975 و1976 وبلغت ذروتها عام 1982 بعد اغتيال بشير الجميل والاجتياح الإسرائيلي.

يعتمد زعماء الطّوائف أساليبهم الخاصّة للعبث بملف المفقودين المختفين قسرًا. من هذه الأساليب رفضهم المستمر  للتعاطي مع موضوع المقابر الجماعية، لأن وجودها مؤشر واضح إلى ارتكابهم جرائم وحشية منظّمة ومنهجيّة. لكن  المنظومة كانت قد اعترفت بوجود العديد من المقابر الجماعية في جميع أنحاء الأراضي اللبنانية وعددت منها مقابر حرش بيروت، مار متر والمقبرة الإنجليزية في التحويطة. لكنها لم تتخذ أيّ إجراء لحماية هذه المواقع وحراستها ولم يتمّ استخراج الرّفات منها. عندما نتعامل مع مقابر جماعية في لبنان، فإننا نتحدث عما يقارب 400 موقع، كما تعمل العديد من المنظمات اليوم على تحديد مواقع مجاورة لمراكز احتجاز كانت تستخدم أيام الحرب. في عام 2005، تمّ التعرف على 18 جثة وتسليمها  إلى عائلاتها من خلال تحليل الحمض النووي في مقبرة جماعية تقع في مبنى وزارة الدفاع، كذلك في عام 2006، ونتيجة ضغوطات الحكومة البريطانيّة، تمّ العثور على جثّة الصحافي البريطاني أليك كوليت الذي كان قد اختطف عام 1985.

لا تنتهي أساليب زعماء الطّوائف للعبث بهذا الملف عند ما ذكر آنفًا، بل تبقى آلية وضع القوانين من أشدّ الأساليب عنفًا التي استخدمها هؤلاء في ملف المخفيين، بحيث أصدروا قانون العفو العام تحت غطاء مفهوم السّلم الأهلي وإعادة إعمار لبنان، في عام 1991. لم يقتصر الأمر على توفير الحصانة لجميع مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية فحسب، بل ترك الضحايا وعائلاتهم دون أيّ وسيلة لتحقيق العدالة ودون أيّ نوع من التعويض عن الأضرار. النتيجة هي أن قانون العفو العام ساهم في تحويل أمراء الحرب إلى قادة سياسيين يديرون مؤسسات الدولة برمّتها، كما وأعطاهم الحق في إساءة ذكرى الحرب واستخدام ضحاياها على أساس أجنداتهم السياسية وتحالفاتهم. كذلك اقترن مفهوم بناء السلام عند هذه المنظومة بعد الحرب على إعادة الإعمار، بينما بقيت القضايا الرئيسة مثل قضية المفقودين بدون حلّ.

على الرغم من بشاعة كل الأساليب التي تستخدمها المنظومة، لم ييئس ذووهم من البحث عنهم. فلقد بدأت آلاف العائلات التي فقدت عزيزًا  خلال الحرب بالتجمع في أوائل الثمانينيات حيث وجدت في معاناتها المشتركة قوّة، وانطلقت في رحلة طويلة مستمرة حتى اليوم. من بين الخطوات الأوليّة التي تمكنت تلك العائلات من القيام بها، كانت الضغط لتشكيل لجنة رسمية في عام 1999، مهمتها الكشف عن مصير المفقودين. لكن كل ما أنجزته هذه اللجنة، التي تشكلت من رؤساء أمنيين، كان نشر تقريرٍ من صفحتين يفيد بوجود عشرات المقابر الجماعية في لبنان، وأنّ جميع المفقودين في الحرب سيُعتبرون في  عداد الأموات. بعد هذا التقرير المخيّب، تمّ تشكيل لجنتين أخريين عامي 2001 و2005 ولم ينتج عنهما أيّ معلومات فعليّة عن مصير المفقودين، كما اتضح أن اللجنة الأولى واللجنة الثانية لديهما بيانات غير دقيقة عن عدد المفقودين في الحرب، حيث تفاوتت الأعداد عندهما بين 702 و 2312 مفقودًا. بينما الرقم المتداول وصل إلى 17000 مفقود.

في عام 2009، عمدت لجنة أهالي المفقودين إلى تغيير نهجها وتمكنّت بدعم من الجمعيّات والمنظمات غير الحكوميّة  من تقديم مشروع قانون بشأن المفقودين. استغرق البرلمان ما يقارب عشر سنوات لإقرار القانون 105 بشأن المفقودين والمخفيين قسرًا، والذي أبصر النّور في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2018. من بين المواد الرئيسة في هذا القانون، إنشاء لجنة مكونة من 10 أعضاء من خلفيّات مختلفة لكشف مصير المفقودين. تمّ تعيين أعضاء اللجنة بعد عام واحد، ولكن ما حصل هو أنّ اثنين من الأعضاء لم يقبلا المهمة، فانتهزت المنظومة هذا الأمر كفرصة مثالية لعدم ملء شغور العضوين المتبقيين. وبالتالي أبقت عمل اللجنة الرسميّة معلقًا، مع العلم أنّ للجنة – وضمن اختصاصها- الحق في فتح مقابر جماعية، وإنشاء قاعدة بيانات للمفقودين مع الحمض النووي لعائلاتهم التي جمعتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر حتى الآن، وتجريم كل من يتلاعب بمهمتها في البحث عن الحقيقة.

هذه المحاولات الفاشلة ليست سوى مؤشر واضح على أن النظام السياسي أنشأ تسويات تلو الأخرى على حساب المفقودين وعائلاتهم، وتجاهلت معاناة ذوي الضحايا وحرقتهم إلى معرفة الحقيقة، حيث يترسّخ هنا الرّهان على أن معالجة أوجاع  أهل الضحايا في ظل هذا النظام ليست إلّا وهمًا، وهدرًا للوقت وإضافة مأساة إلى مأساتهم. فالقانون الخاص بالمفقودين يبقى حبرًا على ورق مع عدم وجود أيّ نيّة لتنفيذه من قبل هذه المنظومة، لكنّها أقرّته لأنها تدرك أنّ سلطتها تعلو على سلطة القانون. فهي لا زالت تعيد كذبتها حتّى تصدق عفّتها، حيث عمدت إلى عدم إقرار ميزانية الهيئة المعنية بكشف مصير المفقودين، ولم تنشئ مكتبًا لها، ولم تسعَ إلى استكمال أعضائها. هي ترقص على مأساة الضحايا خلف الستارة المنمّقة بالقوانين الحديثة والقائمة على مبادئ حقوق الإنسان، بينما تستمر ممارسات مثل الاختطاف والإخفاء القسري إلى يومنا هذا.

مع استمرار أداء المنظومة بهذا الشكل، تستمر معاناة أسر المفقودين، حيث أصبح معظمهم يعانون مما يسمى بالخسارة الغامضة، وهي خسارة لا يمكن الشّفاء منها ما لم يتمّ الكشف عن مصير أحبائهم. ترك هذا الملف أوضاع العديد من النّساء في حالة من الغموض. على سبيل المثال: زوجة أم أرملة؟ واختُصرت حياة الكثيرين في البحث عن أفراد أسرهم المفقودين. من جهة أخرى، يُلزم التشريع اللبناني عائلات المفقودين بإصدار شهادة وفاة لهم، لكن الكثيرين يعتقدون أنهم إذا أصدروها، فسيتوقف البحث، وبذلك تعيش العائلات صدمة مطوّلة بدون أيّ بارقة أمل أن مأساتهم ستنتهي يومًا.

هكذا قطع زعماء الطوائف الطريق على كل الأمور التي من الممكن أن تؤدي إلى معرفة مصير المفقودين. لقد روى كلّ منهم قصصًا بطوليّة حول كيفية خوضه الحرب في وجه “العدو”، وكيف أنقذ لبنان. إن المقابر الجماعيّة التي يعرفونها جيدًا جميعًا ستكشف عن أكاذيب هذه السيناريوهات البطولية التي حفروها في أذهان جماهيرهم، وسينكشف زيف ادعاءاتهم، والهالة التي رسموها حول كل زعيم ستنطفئ.  قانون العفو العام الذي صدر على أساس أنّه لإنهاء الحرب كان مجرّد عبّارة  نقلت المعارك من دموية إلى معارك سياسية شرسة. لا زال زعماء الطوائف حتّى اليوم يعيقون أيّ محاولة لإنهاء هذه الحرب، لا بل يحرضون على معارك جديدة ليبقى المفقودون في عداد المفقودين. إنّ الكشف عن مصير المفقودين حتّى لو لم يؤدِّ إلى محاكمة الجناة، لكنّه على الأقل سيعطي الحق المعنوي لذوي الضحايا، ويُشكّل حينها حقًّا قطيعةً ليس مع مرحلة الحرب فقط، بل مع مرحلة ما بعدها أيضًا. من هنا، إنّ السبيل الوحيد لكشف مصير المفقودين ليس بإنشاء لجنة متخصصة، بل هو بالسّعي إلى تأسيس دولة فعليّة مكتملة المقوّمات، يقرّ فيها الأفراد بتحمّل مسؤولياتهم، بالتّالي لا يمكن أن تعلو سلطتهم على سلطة القانون، ولا يمكن أن يستخدموه كواجهة مزيّفة تتحرك حسب مصالحهم وتُدار من أجل بقائهم. إقامة هذه الدّولة هي خيار وحاجة للحفاظ على هذا المجتمع، من دونها ستبقى كلّ ضحية تعيش مأساتها وحيدة فيما رضيت ببقاء منظومة تعبث بمصيرها وتدرج حقوقها في خانة “المخفي قسرًا”.