من الحرب إلى الهدنة: ستة وأربعون عامًا تستحق اليوم

مقال ل أسامة الشيخ، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة

١٣ نيسان ٢٠٢١

 ستةٌ وأربعون عامًا مضتْ على بداية الحرب الأهلية، وواحدٌ وثلاثون عامًا على نهايتها، جيل الأمس دفع ثمن الحرب، وجيلنا اليوم يدفع ثمن الهدنة. عاش الناس مأساة الحرب يعبرون الشارع بسرعة ويتلطَّوْن في الزواريب ومداخل البنايات خوفًا من قناص هنا أو مدفعية هناك، عاشوا الذل على الحواجز، يخافون لعنة “الهوية” والمصير المجهول، ينامون على أصوات الرصاص والقذائف ويستيقظون على أخبار المجازر والاغتيالات. آلاف قُتلوا وآلاف هُجّروا وآلافٌ لا يزالون في عِداد المفقودين حتى اليوم. ثم بقدرة قادر أُنهيت الحرب وأُبرِمت تسوية على دماء جيل بأكمله. ارتضى الناس تلك الهدنة غير آبهين بأثمانها.

لم يَصنع اتفاق الطائف قطيعةً مع مرحلة الحرب، بل قطيعةً معَ ما قبلها، فقد طُمستْ تلك الحقبة من تاريخ لبنان بكل ما تحمله من نضالات ونقاشات. وتُرك الأمر لكل زعيم لكي يروي بطولاتِ مجازرِه وارتكاباته كما يحلو له، والتنفيعات والمصالح الحياتية ورُهابُ عودة الحرب الأهلية كان كفيلًا بأن يجعل الناس يصدّقون ما يقال لهم.

أصحاب الحواجز والمتاريس صاروا نوابًا ووزراءً وزعماء. بيروت المهشّمة انتقلت من يد الميليشيات إلى يد أصحاب المليارات لينقضّوا عليها وينهشوها مضارباتٍ عقاريةً وفوائدَ عالية. أعادوا إنتاج الطائفية بفجاجةٍ أكثر من قبل، فترسّخت في كل جانب من جوانب الحياة، في التعليم والصحة والسكن والترشح والانتخاب والأحوال الشخصية، حتى هُيّئ للبنانيين واللبنانيات أنَّ الطائفية سمة ملازمة لهم منذ الأزل مزروعةٌ ومُؤصّلة في جيناتهم.

جيل ما قبل الحرب طُمستْ تجربته، وجيل ما بعد الحرب عاش على وهم الدولار بـ1500 وبنى “صرحًا من خيالٍ” ها هو يتهاوى اليوم. أما جيل اليوم فهو برعم يرى أن الربيع قد فاته وأن ربيعه قد لا يأتي من جديد…

لقد ضُربت المفاهيم وسادت السرديات القائمة على الطائفية. لا يجب أن تعود صراعات الماضي لتوقد نار الحرب، ولا يجب أن تستمر سردياتها. نرنو إلى الماضي بحلوه ومرّه بوصفه تجربةً يجب التعلّم منها، علينا أن نقرأ التاريخ كي نتخطاه لا كي نعود إليه. من تفكك الدولة وتفتت المجتمع ومآسي الحرب، إلى تناتش الحصص وتقاسم الأرباح وهدر المقدّرات، كل هذه التراكمات تستحق اليوم مع الانهيار الذي نعيشه، وتعيدنا نصف قرن إلى الوراء. لم يعد هناك مهرب من هذه الاستحقاقات، وآن الأوان لطيّ صفحة الحرب، لا من خلال تسوية تفرّط بما تبقى وبمن تبقى، بل من خلال التأسيس لمرحلة جديدة تُنهي 46 عامًا من الانقسامات والتفتت والتشوّه. أجمع الكثير ممّن خاضوا الحرب ونقدوا التجربة بأنها لم تكن حتمية تاريخية ولا قدرًا مرسومًا، بل وليدة خيارات. كما كان الخيار متاحًا لهم فهو متاحٌ لنا أيضًا، فهل نعيد الكرة مرة أخرى؟ أم يكون خيارنا مختلف؟