في مفهوم الإصلاح الإقتصادي

بقلم شادي جبور، باحث وأستاذ جامعي، مونبيليه، فرنسا ، Montpellier ،CNRS

لقد تعدّدت البرامج الإصلاحيّة والخطط الإقتصاديّة الإنقاذيّة المطروحة على الساحة اللبنانيّة، حتى لا تسمع إلاّ بالخبراء ولا ترى إلاّ الإطلالات على الشّاشات ووسائل الإعلام. فهناك مُقتراحات تتعلّق بصندوق النّقد الدولي، وتأتي على شكل وصفات ماليّة ونقديّة مُفترض اتّباعها. وهناك وعود تبدأ من شكل الحكومات وتركيباتها الفريدة، وتبشّر بخفضٍ في مستويات العجز المالي. وهناك تدابير للإنقاذ رهينة انتقاء سياسات إصلاحيّة معيّنة وتفضيلها على أخريات… وهناك أيضاً، تساؤلات عديدة ترافق كل هذه الطروحات. فَعسانا نسأل أنفسنا، نحنُ كمواطنين ومواطنات في دولة “مفترضة”، وأولئك الخبراء، ما نسمع “بالإصلاح الإقتصادي”؟

أمنَ المقصود أنّنا نحن الّذين من أخطأ بحقّ إقتصادٍ فريدٍ من نوعه، لعدم كوننا على درجة كافية من حفظ الأمانة وتحمّل المسؤوليّة… فيتوّجب علينا تصحيح سلوكنا؟

أم أنّنا غافلين كنّا عن نظامٍ إقتصادي هشّ، فبات علينا النّهوض من أجل تصحيح ذلك الخلل؟ ويتمّ الإصلاح في تلك الحالة بمجرّد تغيير شكل الإقتصاد من ريعيّ خدماتيّ إلى إنتاجيّ… أو بالإنتقال إلى نظامٍ إقتصاديٍّ آخر، أكان في فلك اليبراليّة أم في حضن الشيوعيّة… فيستقيم الإقتصاد من تلقاء نفسه، وكذلك قد نكون حقّقنا الإصلاح المرجوّ؟

أم أننا لم نتمثّل بما فيه الكفاية بدول “العالم المتقدّم” فلفظنا أرباب الإقتصاد العالميّ وبتنا خارج مركب الإزدهار المنشود له؟ ويأتي الإصلاح هنا بتلبية رغبات الخارج وتطبيق النّماذج الإقتصاديّة العالميّة “النّاجحة”، بصرف النظر إن جاءت مفروضة أم منسوخة؟

كيف لنا أن نعرف وعلى من نلقي اللّوم؟ وإلى من نشير بأصابع الإتّهام؟ وبمن نتمثّل فننال قسطنا من الرفاهيّة؟  كيف لنا أن نعرف أنّ دولتنا المفترضة في طور الإصلاح الفعليّ للإقتصاد ؟

إن كان من هدفٍ وحيدٍ للإصلاح، ومن دون الدخول في تفاصيل البرامج الإصلاحيّة وإجراءات كلٍّ منها (ترشيد الإنفاق، تحفيز الإنتاج، إصلاح التشريع الضريبي، إدارة الطلب، إحتواء التضخم، رفع عائديّة الإستثمار، إلخ..)، فذلك الهدف يجب الوصول إليه من باب تثبيت مفهوم الكرامة لدى المواطن عبر إحقاق العدل والمساواة.

فإذا كان الإصلاح عبارة عن سياسات تقشّفٍ وحرمانٍ وقهرٍ كما نشهده حاليّاً، وقد يُساهم ذلك في استعادة الكرامة، فحريّ بدولتنا أن تكمل هذا المسار طالما لم نحدّد بعد مستوى الكرامة الذي نرجوه لأنفسنا.

وإذا كان الإصلاح بمجرّد استصلاح الأراضي للزّرع، ودعم القطاعات الإنتاجيّة وتحديث الصناعات، وعلى قدر ما يساعد ذلك في تأمين العدل والمساواة، فحريّ بدولتنا أن تأخذ ذلك الخيار طالما لم نسع بما فيه الكفاية من أجل تحقيق مستوى العدل والمساواة الذي نطمح إليه .

وإذا كان الإصلاح يقتضي استجلاب النماذج الإقتصاديّة العالميّة مع كامل حسناتها ومساوئها، وما قد يوفّر ذلك من حدٍّ أدنى من النموّ وتكافؤ الفرص، فحريّ بدولتنا اعتماد تلك النماذج طالما لم نتوّحد بعد لتقرير متطلّبات تَنميتنا وطبيعة اقتصادنا ومستقبله.

إذ إنّ الإصلاح الإقتصادي، وبمعزل عن مفهومه الواسع المُنطلِق من الإقتصاد السياسي، أو معناه الضّيق المُرتبط بالسياسات الإقتصاديّة، ليس هدفاً بحدّ ذاته إنّما مجرّد وسيلة لبلوغ الهدف. وبالتّالي، إن أيّ خطّة إصلاحيّة لاستعادة التوازنات الإقتصاديّة، إذا غابت عنها رؤية تنمويّة إجتماعيّة شاملة مترابطة تحمل في طيّاتها تلك المفاهيم (الكرامة، العدل والمساواة)، قد تشكّل خطراً على الإقتصاد، وتضع عقبات من أجل تطويره بشكل سليم وأخلاقيّ بالحدّ الأدنى. فعِلم الإقتصاد كان لا يزال جزءاً من العلوم الأخلاقيّة في أوائل القرن العشرين (باتت تُعرف أيضاً بالفلسفة الأخلاقيّة). الأسئلة المركزيّة لتلك العلوم، والتي جاءت من خلال مواكبة تطوّر الأنشطة الإقتصاديّة، حاولت تحديد ما هو جوهريّ بالنسبة للإنسان. ومع كامل الإدراك أن العلوم بأغلبيّتها تعير اهتماماّ للبعد الأخلاقيّ، غير إنّ المسألة الجوهريّة في الإقتصاد، والّتي تتعلّق باتخاذ القرارت وتحديد الخيارات، ترتبط بشكلٍ كبير بالقيم الأخلاقيّة والمعنويّة للفرد، وبالقيم المشتَركة للمجتمع ككلّ على نطاقٍ أوسع.  وبالتّالي، إن كان من معنى لتطوير ونجاح إقتصادٍ معيّن، فمعناه يجب أن يُقاس في قُدرته على إدارة العلاقات الناتجة عن تفاعل تلك القيم وزيادة المعرفة بشكل مستمرّ ضمن النظام السياسي الإجتماعيّ لذلك الإقتصاد (راجع [1] Boulding, 1969).

ومن هذا المنطلق، فنجاح الإصلاح الإقتصادي من عَدمِه، يتوقّف على طبيعة النظام السياسي، كفاءته وأُطر تنظيمه لمختلف تلك التفاعلات. فإن أردناه أخلاقيّاً بالدرجة الأولى، يجب أن يأتي هذا الإصلاح ضمن نظامٍ يقيم بيئة تنظيميّة تشريعيّة سليمة لإدارة تلك التفاعلات المجتمعيّة. أمّا إن أردناه فعّالاً، فلا يمكن أن يتحقّق إلاّ ضمن إطار دولة قويّة قادرة على تفعيل الإجراءات الإصلاحيّة عبر إرساء شرعيّتها بشكل مباشر على كل فردٍ من المجتمع، وبدون أي وساطة (أطائفيّة كانت أم غير طائفيّة).

فإمّا أن يأتي الإصلاح الإقتصادي في لبنان ضمن إطار دولة مدنيّة تثبّت مفهوم الكرامة الإنسانيّة بالدرجة الأولى، وتشرف على تطبيق سياسات الإصلاح وتنفيذها ضمن عملية ديناميكية فعّالة.

وإلاّ، بئس هكذا إصلاح… وهكذا إقتصاد…

[1] Boulding, K.E., 1969. Economics as a moral science. The American Economic Review59(1), pp.1-12.