طرابلس كمدخل لبناء الدولة المدنية

مقال ل عبيدة التكريتي، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة

٣٠ آذار ٢٠٢١

بالتنديد أو الدعم، كل المحاولات للوقوف مع طرابلس اليوم هي عقيمة إن لم تترافق مع معاينة أعمق لما يحصل وسيحصل. فطرابلس لا يمكن أن يختزل أحد بعض مظاهر العنف فيها كأنها ردة فعل للـ “فقر” وكأن المطلوب هو تبرعات مالية لأهل المدينة من جهة أو “ضبط” أمني لهم. لم يكن هذا الحدث الوحيد في طرابلس، فقد توالت بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الزيارات والوفود على مرفأ طرابلس رفضاً لأي هيمنة سياسية على المرفأ الثاني في لبنان ومشدّدة على أهمية تفعيل هذا المرفق لمواجهة أزماتنا الوطنية. ولم تهدأ الاجتماعات والاتصالات التي تلقاها المدير العام لمرفأ طرابلس من شخصيات سياسية وشعبية تذكّره أنها بجانبه في وجه أي ضغط وتهديد قد يتعرض له. قد يتوهم البعض أن هذه الجمل ترجع فقط للأسبوعين الماضيين متناسين أنها جمل محفورة في الوعي الطرابلسي العام لعقود. ولطالما احتج وجهاء طرابلس السياسيين بالتهميش التي تتعرض له المدينة ومرافقها، حتى اقتنع الطرابلسيون والطرابلسيات أن هناك تآمراً لمصلحة المركزية في بيروت، أو عنصرية شيعية مسيحية درزية بوجه السنة المستهدفين، أو مؤامرة إقليمية دولية ضد تاريخ المدينة. هذا لم يمنع طرابلس من أن تكون نبضاً لكثير من الانتفاضات والثورات منذ نشأة لبنان وصولاً إلى انتفاضة 17 تشرين. وينسى الكثيرون أن “الوجهاء” الطرابلسيين لطالما قاموا بالتسويات على حساب المدينة، ولطالما ضحكوا على أهل مدينتهم بمشاريع وعناوين شكلية لم يرغبوا يوماً في تطويرها كمعرض طرابلس (رشيد كرامي) الدولي، مشروع الإرث الثقافي، والمنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس. بالتوازي مع هذه العناوين البراقة، كانت المدينة مرتعاً لكل تلك الرسائل السياسية، وطنياً وإقليمياً، فكانت حرب التبانة وجبل محسن، أحداث نهر البارد، والملاحقة الدائمة “للإسلاميين”. وها هي السلطة المتساقطة بنظامها الطائفي، تحاول مجدداً التمديد لنفسها، باحثة عن حل لما تعتبره السلطة “المعضلة” الطرابلسية بوجه من يؤمنون بطرابلس كركيزة للانتقال نحو دولة فعلية.

خزان للنظام الطائفي

انطلقت الحملات السياسية والإعلامية في الفترة الماضية، تعترض وتستبق أي تأثير وسيطرة من حزب الله والتيار الوطني الحر على مرافق طرابلس كالمرفأ والسرايا و”الأمن” بحجة أن هذين الأخيرين لا نية لهم إلا التآمر على المدينة. ولا يخفى على أحد أن القرار الفعلي في هذه المرافق لطالما سيطر عليه الوجهاء السياسيون بالتناوب أو التشاركية، تيار المستقبل من خلال مجلس الإنماء والإعمار بمديرها العام، نبيل الجسر، ونائبها في مجلس النواب محمد كبارة، ناهيك عن استثمارات نجيب الميقاتي وعلاقات فيصل كرامي. ويمكن لهؤلاء التسويق مجدداً لمؤامرة “السلطة المركزية” متناسين أنهم كانوا على رأس الكثير من الوزارات، اللجان النيابية، ومجلس الوزراء بحد ذاته. المشكلة ليست فقط في التباس نية هؤلاء الوجهاء أو فسادهم المباشر وغير المباشر أو دورهم الذي يلعبونه، بل في النظام الطائفي القائم على المحاصصة. في منطق المحاصصة، لا مكان لطرابلس، عكار، المنية، والضنية إلا باعتبارها خزاناً شعبياً لطائفة في وجه أخرى أو ملعباً سياسياً لكل الرسائل السياسية. فيصبح أهل هذه المناطق إما عمالاً، جنوداً، أو إطاراتٍ مشتعلة. لا حل فعلي للطرابلسيين والطرابلسيات إلا الوقوف بحزم لمواجهة ألاعيب السلطة الطائفية، والمشاركة في بناء دولة عادلة.

الخارج مش هوية

ازدادت في المرحلة الأخيرة ظاهرة رفع العلم التركي وصور رئيس الجمهورية التركية، أردوغان، على بعض شرفات المنازل كما في بعض التحركات الشعبية. وهذه الظاهرة ليست بحدث جديد في تاريخ المدينة التي لطالما راهنت بعض مجموعاتها وبعض وجهائها على الخارج كمخلص للمدينة أو الطائفة السنية. ولقد رُفع في المدينة عدد لا يحصى من صور الشخصيات التي مرت في تاريخنا المعاصر كملوك السعودية المتعاقبين، معمّر القذافي، صدّام حسين، حافظ الأسد وبشار الأسد من بعده، ياسر عرفات، الخميني، أسامة بن لادن، جمال عبد الناصر، واليوم أردوغان. وهذه الدول الخارجية، الشخصيات “البطولية”، والمشاريع الإقليمية لم تتوانى يوماً عن استخدام المدينة وأهلها إلا كميدان لرهاناتها الكبرى. يمكن للبعض أن يبرر ذلك بالهوية والمصير المشتركين لأغلبية سكان الشمال ويغفل عنه أن النظام الطائفي اللبناني هو من يعزز هذه النزعات. فالكيان اللبناني الحالي، كائتلاف لطوائف، لا يعيش إلا على الشعور بالخوف وبالتالي على رهان على طائفة على التقوقع والاستنجاد بالحماية الخارجية. لا يمكن لأهل طرابلس وجوارها الرهان مجدداً على أي دولة خارجية بل التطلع لبناء دولة مدنية تحتضن كل مواطنيها.

طرابلس لا تختصرها “الميمات”

الشعور الطرابلسي بالتهميش ليس سبباً للتهميش الخدماتي فقط بل بسبب كل تلك المعالم والمرافق المعطّلة التي تحتل الجزء الأكبر من المدينة. هذه المنشآت لو نظرنا لظروف إنشائها لوجدناها وعوداً بدأت بالأساس فارغة، وكانت مجرد أمل زائف استخدمه السياسيون لإخماد أي محاولة لتغيير سياسي. بالتوازي مع الأمل الزائف، اتكلت السلطة اللبنانية على الخوف لتبيع الناس شعوراً زائفاً بالأمن من خلالها وحدها بمقابل كل تلك “المجموعات” التي تريد إرهاب الناس. بالعودة للمنشآت الطرابلسية، يختصر الطرابلسيون هذه المعالم بالميمات: مرفأ، معرض، مصفاة، محطة قطار، مطار، ملعب، ومنطقة اقتصادية “خاصة”. ولطالما أطلقت الأحزاب السياسية ووجهاء المدينة الوعود الشكلية لإعادة تفعيل هذه المنشآت غافلين ومتغافلين أن السؤال الحقيقي هو عن دور المدينة تجاه أهلها والجوار كما مركزها في السياسية الاقتصادية الوطنية. فالمنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، آخر الوعود المضللة، لا يمكن لها بالفعل أن تؤمن وظائف لأهل الشمال ولم تنشأ يوماً لهذا السبب. والحديث عن طرابلس كمركز اقتصادي يجب ألا ينطلق من منشآت المدينة بل من القدرة البشرية التي تكتنزها، ومن قدرة المدينة على لعب دور محوري في السياسة الاقتصادية المحلية والإقليمية. لا يمكن لتلك الوعود المضللة بناء أي نهضة فعلية إن لم نبدأ بالفعل بالتفكير بدور جديد وفعال لطرابلس.

ما تزال سلطة الإفلاس والدمار تتطلع لتمديد عمرها عبر العبور على كل الخسائر البشرية والمادية للبنانيين واللبنانيات غير آبهة بتدمير المجتمع وتفريغه من آخر محتوياته. وتفادياً لأي مقاومة لهذه المساعي وكحلّ لما تعتبره السلطة “المعضلة” الطرابلسية، بدأت سلسلة مناورات السلطة المعتادة والتي تجمع بين إطلاق الوعود الكاذبة انطلاقاً من المساعدات الإنسانية والمرفأ وبين نشر الخوف انطلاقاً من “الخطر” التركي والإسلامي. هذه المحاولات بشقيها هي تبديد لكل الجهود الحقيقية والصادقة لكل المواطنين والمواطنات الذين يتطلعون لانتقال فعلي من نظام حالي دمّر مدينتهم لنظام مدني وطني يبنونه بأنفسهم.