انتفاضة الصناديق: المواجهة الحتميّة

«إنّ تشاؤم العقل لا يُقاومُه إلا تفاؤل الإرادة»

أنطونيو غرامشي – الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي

لا يخفى على المطّلعين على أزمة لبنان العميقة، أنّ اللاعبين الفعليّين على الساحتين السياسيّة والاقتصاديّة في البلاد ينقسمون أوّلاً: إلى الحلقة الطائفيّة، أي أمراء الحرب والطوائف (والجهات الإقليميّة والدوليّة الراعية لهم)، وثانياً: إلى الحلقة الماليّة، أي أصحاب المصارف وحاكميّة المصرف المركزي.

اللافت هو وجود اعتماد متبادل (interdependence) بين هؤلاء اللاعبين الفعليين. فقد أسهم التعاضد العضوي بينهم في إرساء نظام سياسي – اقتصادي عاشه المواطنون والمواطنات، وارتضاه الكثيرون منهم لأكثر من ثلاثة عقود. ويقوم هذا النظام على توزيع دقيق للأدوار: ففيما تعمل الحلقة الماليّة كقناة لاستجلاب الأموال وضخّها داخلياً عبر الدين العام والديون الخاصّة، فإنّ الحلقة السياسيّة تقوم بتنظيم قنوات التوزيع، فتشتري الولاءات، وتُعزّز قبضتها على السلطة. وفي المحصّلة أُرسي نهج ينطوي على نزاعات دائمة بين الزعماء على الحصص، ويعجَز فيه القيّمون على الشأن العام عن حسم أيّ خيار مهمّ في السياسات العامّة.
في بداية الأزمة الماليّة – الاقتصاديّة في عام 2019 – والتي أخذت معالمها تتّضح منذ سنة 2016 في أعقاب هندسات مصرف لبنان الماليّة – بدأت آليات الحلقة السياسيّة تتعطّل، وكذلك قنوات التوزيع المُعتمدة من قِبَلها (مثل شراء الولاءات من خلال التوظيف العام والتنفيعات السياسيّة، أي جرّاء ضخّ الأموال الآتية من الخارج داخلياً عبر الدين العام والديون الخاصّة). وقد تعطّلت تماماً عشيّة إعلان حكومة حسان دياب عن تخلّف لبنان عن سداد ديون «اليوروبوندز» في آذار 2020.
وفي المقابل، شهدت الحلقة الماليّة توسّعاً في دورها وفي تأثيرها. فعلاوةً على مواصلتها حجز أموال المودِعين، وفرض شروط قاسية لسحب العملات الصعبة من حساباتهم من خلال التعميمات المُغرضة والإجراءات الاستنسابيّة، فإنها تمكّنت من نسف برنامج حكومة دياب الذي تضمّن توزيعاً لخسائر إجمالية بقيمة 83 مليار دولار، كان من المُقرّر أن يتحمّلها الفاعلون الاقتصاديون، أي «مصرف لبنان» والمصارف التجارية ودافعو الضرائب. وقد كان لافتاً إذعان لجنة تقصّي الحقائق في مجلس النواب لإرادة أصحاب المصارف، فخلصت اللجنة المذكورة في حزيران 2020 إلى تقليص حجم الخسائر الإجمالية لمصرف لبنان والمصارف إلى أقلّ من الثّلث، تمهيداً للتفاوض مع الدائنين الخارجيين.
انطلاقاً من هذا الواقع، لا بدّ من إطلاق نقاش واسع حول أهميّة العمل السياسي الرامي إلى مواجهة الحلقة الماليّة التي يُشكّل كارتيل أصحاب المصارف أبرز لاعبيها. وتستمدّ هذه المواجهة طابعها السياسي من واقع قوامُه أنّ الحلقة المالية باتت مطمئنّة إلى تضامن الحلقة الطائفيّة شبه التامّ معها، فأضحت محصّنة في وجه أي مساءلة رسميّة أو أيّ تقييد لعملها. ولهذه المواجهة هدفان أسياسيان. الأوّل، هو حشد المواطنين والمواطنات – ولا سيّما أولئك المنضوون في نقابات المهن الحرّة والمعلّمين – للدفاع عن حقوقهم الاجتماعية ومدّخراتهم من خلال منع أصحاب المصارف من تبديد الادخارات المجتمعيّة، وخصوصاً صناديق التعاضد. ذلك أنّ هذه الصناديق تمثّل مفصلاً حرجاً للحلقة الماليّة، كونها تعمل في أطر منظّمة تضمّ مئات ألوف العائلات التي تمّ الاستيلاء على مدّخراتها من قبل أصحاب المصارف أنفسهم. أما الهدف الثاني فهو الإسهام على المدى المتوسّط في «إعادة هيكلة» النظام المصرفي على نحوٍ يتلاءم والوظائف التي يحتاج إليها المجتمع، وذلك قبل انتهاء أيّ تفاوض مع الدائنين، سواء حملة سندات اليوروبوندز أو «صندوق النقد الدولي» (بعدما أعلنت وزارة الماليّة اللبنانيّة أنّها استأنفت تواصلها مع الصندوق من أجل التوصّل إلى اتّفاق من شأنه أن يُطلق العنان للدعم المالي من المجتمع الدولي).

ماهيّة صناديق التعاضد
وفقاً للمرسوم الاشتراعي الرقم 35 للعام 1977 الذي يُحدّد قانونيّة صناديق التعاضد وآليات تأسيسها وتنظيم العمل فيها، فإنّ صناديق التعاضد هي مؤسّسات اجتماعية لا تبغي الربح. وهي تشكّل نوعاً من الرابط الاجتماعي بين أعضائها، فهي تضمّ أشخاصاً تجمع بينهم الرغبة في التضامن والمساعدة المتبادلة، وذلك بواسطة اشتراكات إلزامية يدفعونها مقابل تلقّيهم خدمات معيّنة. ومن الأغراض التي تسعى هذه الصناديق لتحقيقها تأمين مَعاش تقاعدي للمشتركين، بالإضافة إلى تعويضهم في حال حدوث أيّ من الأخطار التي تصيبهم أو تصيب عائلاتهم سواء في شخصهم أو في ملكيّتهم أو في استثماراتهم، بما في ذلك الحوادث الجسديّة، والمرض، وحتى في الوفاة. وتُعنى هذه الصناديق أيضاً بمساعدة الأعضاء في حالات الزواج والولادة ونهاية الخدمة، بالإضافة إلى تقديم المساعدات والمِنَح والقروض لهم ولأولادهم لغاية التعليم.
يغلب على هذه الصناديق طابع الادّخار الإلزامي – أو الإجباري – كالادّخارات الاجتماعية المتراكمة في «الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي»، وفي صناديق التعاضد للمهن الحرّة وللمعلمين، حيث يُطلب من الأعضاء، سواء أكانوا موظّفين أو أرباب عمل، المساهمة دورياً في خطط صندوق الادّخار الإلزامي التي تتقدّم بها النقابات المعتمدة، وفقاً لرواتب الأعضاء وفترة توظيفهم. وتختلف هذه الصناديق عن حسابات الادّخار الفرديّة الذي يغلب عليها طابع الادّخار الطوعي، حيث تقوم الشخصيات أو الهيئات المعنويّة أو الطبيعيّة بإيداع الأموال طوعاً في المصارف أو في أسواق الأسهم أو الصناديق المشتركة وغيرها من هذه المؤسّسات، وذلك لقاء معدّلات فائدة قد تختلف باختلاف المؤسّسات التي تشكّل وجهة الادّخار.

هنا، لا بدّ من الإشارة إلى التعميم 158 الصادر عن مصرف لبنان بتاريخ 8 حزيران 2021 (والصّالح لغاية 31 تشرين الأول 2021)، والذي يجيز لأصحاب الودائع بالدولار سحب 400 دولار شهرياً، وبموازاتها 400 دولار أخرى بالليرة اللبنانية على سعر 12 ألف ليرة للدولار الواحد. فبمعزل عن أنّ هذا التعميم ينطوي على «هيركات» يبلغ نحو 80% من قيمة الوديعة، إلّا أن أحكامه تقتصر على الأشخاص الطبيعيّين الذين يملكون حسابات فرديّة، فيما تستثني الصناديق التعاضديّة التي تضمّ أموالاً لعشرات الألوف من أعضاء نقابات المهن الحرّة والمعلّمين، وتحرمهم وعائلاتهم من الاستفادة من ادّخاراتهم الاجتماعيّة. وبذلك، فإنّ حاكميّة «المركزي» وأصحاب المصارف يسعون – وبمباركة الحلقة الطائفيّة التي نجحت في تحويل جزء كبير من ودائعها إلى الخارج – إلى تجنيب المصارف تسييل موجوداتها للتعويض على المودعين، ولا سيّما أعضاء النقابات الذين قاموا بإيداع أموالهم في صناديق الادّخار الإلزامي. فيُصبح الحلّ الأنسب – كما تراه جمعيّة المصارف – هو أن تتحمّل الدولة نصيب الأسد من الخسائر، سواء من خلال خصخصة بعض المؤسّسات العامّة، أو المبادلة المحتملة للأصول الحكوميّة (التي تعود ملكيّتها إلى الشعب)، فيتمّ توظيفها في صندوق سيادي تقوم المصارف بإدارته على مدى سنوات لمعالجة بعض هذه الخسائر.
ولعلّ من نافل القول، إنّ أداء الحلقة الماليّة، سواء من خلال الإجراءات الاستنسابية أو التعاميم المريبة، يتناقض في جوهره مع «قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي» الصادر بالمرسوم الرقم 13513 في عام 1963. فوفقاً لهذا القانون، هناك مسؤوليّة أساسيّة تقع على عاتق المصارف التجاريّة في لبنان، وهي أنّ أي استعمال لأموال الجمهور (أي المودعين) من أجل كسب الأرباح لحسابها يعني، ومن دون أي ريبة، أنّه يتوجّب عليها أن تتحمّل الخسائر من حسابها أيضاً.

الأداء المريب للمصارف
لطالما كان الاقتصاد والدولة في لبنان مسخّريْن لخدمة الحلقة الماليّة التي ساهمت – وبالتعاون مع منظومة ما بعد الطائف – في إطالة أمد النظام الاقتصادي – السياسي الذي يقتات على التدفّقات الخارجية، وعلى ضرائب الاستهلاك، ويمنح امتيازات ضريبيّة للشركات. لقد عاش المواطنون والمواطنات في هذا السياق وهماً نقديّاً انهار عند أوّل منعطف للأزمة الاقتصاديّة والماليّة العميقة، وها هم يدركون اليوم الآلية الحقيقية التي مكّنت استقرار «الدولار اللبناني» خلال العقود الماضية.
إنّ هذا الاستقرار الوهمي انطوى على نموّ غير مستدام في موجودات المصارف، وعلى أكلاف كبيرة تكبّدها المجتمع، وبخاصّة أنّ هذا النموّ لم يكن متماشياً مع معدّلات النمو الاقتصادي. فبين سنتي 2016 و 2018 (منذ تنفيذ ما بات يُعرف بالهندسات الماليّة)، نمت موجودات المصارف بنسبة 10.5% (معدل نموّ سنوي مركّب). وبمعنى آخر، ارتفعت نسبة الموجودات المصرفيّة إلى مجمل الناتج المحلّي من نحو 399% إلى 454%، فبات حجم القطاع المصرفي يوازي أكثر من 4 مرّات ونصف المّرة حجم الاقتصاد المحلّي، أو قيمة السلع والخدمات التي أنتجها لبنان في سنة 2018.
غير أنّ تنامي حجم القطاع المصرفي قابله معدّل نمو سلبي للناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي بنسبة 0.55-% في خلال الفترة نفسها. وإن دلّت هذه الاتّجاهات على شيء، فهي تدلّ على أنّ القيّمين على السياستين النقديّة والماليّة في لبنان – أي الحلقة الماليّة، ومن خلفها الطائفية – قد ساهموا بتضخيم موجودات المصارف بمعزل عن الحاجات التمويليّة للاقتصاد. ولو شئنا التداعي إلى فحص وجهة توظيف هذه الموجودات، لوجدنا أنّ أدوات الدين السياديّة (سندات الخزينة، وشهادات الإيداع، والودائع لدى مصرف لبنان) باتت تستحوذ على قرابة 66% من موجودات المصارف التجاريّة في لبنان في نهاية عام 2018، بينما استحوذ تمويل القطاع الخاص المحلّي على نحو 20% من هذه التوظيفات في العام نفسه.
المواجهة الحتميّة لبناء قطاع مصرفي لكلّ لبنان
بحسب جمعية مصارف لبنان، يُعدّ القطاع المصرفي اللبناني ثالث أكبر قطاع في العالم لجهة نسبة الأصول المصرفيّة إلى الناتج المحلّي الإجمالي، ما يعني أنّ مقدار هذه الأصول أكبر بكثير من المستوى المطلوب لتمويل اقتصاد منتج في البلاد. إنّ ضخامة هذا القطاع مقارنةً ببُعد الاقتصاد الوطني تفترض «إعادة هيكلة» للنظام المصرفي في البلاد على نحوٍ يتماشى مع بلدان أخرى ذات بنى اقتصادية واجتماعية مشابهة ومستوى دخل متقارب.
وإلى حين إتمام «إعادة الهيكلة» المنشودة، على الحلقة الماليّة أن تعي أن استثناء المنتسبين والمنتسبات للصناديق التعاضدية من أحكام التعميم 158 هو بمثابة عقوبة جماعيّة بحقّ مئات آلاف الأسر اللبنانيّة. وهي مُطالبة بالتسديد الفوري للمبلغ المحدّد في التعميم بالدولار الأميركي النقدي مع ما يوازيه بالليرة اللبنانيّة عن كلّ منتسب ومنتسبة لهذه الصناديق في حسابات النقابات، وذلك قبل انتهاء المهلة القانونيّة.
كذلك لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المواجهة باتت واجباً على القيّمين على النقابات وأموالها، وبخاصّة أنّ أعضاء النقابات قد ائتمنوهم على حقوقهم وادّخاراتهم الاجتماعية التي تراكمت على مدى عقود من الزمن. وليكن إذاً إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه مدخلاً رئيساً في سياق تأسيس قطاع مصرفيّ يعمل من أجل لبنان، ويؤدّي الوظائف التي يحتاج إليها المجتمع.

واللافت هو أنّ هذه الصناديق هي موجّهة بالدرجة الأولى إلى الطبقة الوسطى وما دونها. وبذلك، فهي تُشكّل شبكة حماية اجتماعيّة ليس لبضعة أفراد منتسبين فحسب، بل لمجتمع برمّته، لكونها مؤتمنةً على عشرات آلاف الحسابات، وتعمل لتأمين مصلحة أعضائها وعائلاتهم، والذين يُقدّر عددهم بمئات الآلاف.