“استفزاز” التناقضات المجتمعيّة

مقال من كتابة سمير العيطة، نشر في جريدة الشروق المصرية على هذا الرابط.

إمكانيّة انفجار الأمن المجتمعيّ ليست حصرًا على الدول «الهشّة». فها هو «الاستفزاز السياسي» الذي أطلقه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لاعبًا على تناقضات مجتمعه قد أدّى إلى هجوم «شعبي» غير مسبوق على مبنى الكونجرس، دون أن تستطِيع الشرطة أو الحرس الوطنيّ الحيلولة دون وقوعه. بل بات حدثًا صداه فى الذاكرة السياسيّة للولايات المتحدة وله آثاره العميقة على مفهوم الديموقراطيّة وعلاقته بالانتخابات.
ينطلق «اللعب بالسياسة» في الولايات المتحدة على التناقضات الاجتماعيّة بين المواطنين على خلفية أصولهم رغم أنهم مهاجرون كلّهم وذلك بين المهاجرين القدامى وأولئك الجدد القادمين خاصّة من المكسيك وأمريكا اللاتينيّة. وهكذا أيضا صعّد «مرشّحٌ» للانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة ضدّ مخاطر فقدان فرنسا لـ«هويّتها» من جرّاء المسلمين بعد أن مهّد له الرئيس الحالي الطريق من خلال خطابه السياسيّ حول خطر «الانفصاليّة»، وقصد به انفصال المسلمين، فى إطار ضواحيهم الفقيرة، عن المجتمع الفرنسيّ. وهذا فى ذات البلد التي كان فيها العمّال، وأغلبهم من المهاجرين المسلمين الذين قدِموا من المستعمرات الفرنسية السابقة، قد قادوا فى ماضٍ ليس بعيدًا، نضالات اجتماعيّة حقّقت مكاسب حقيقيّة لكلّ المجتمع على الأصعدة كافة.
هكذا بات الاستفزاز السياسي على التناقضات المجتمعيّة الداخليّة سمةً عالميّة للعصر الحاليّ يلعب عليها الساسة خدمةً لمصالحهم ومما يقوّض «المواطنة» و«الدولة»، وبالتالي الحريّات والديموقراطيّة. والأمثلة كثيرة وليس أقلّها دلالةً بلجيكا وبريطانيا.
•••
الوضع أكثر صعوبة فى البلدان ذات الأديان والمذاهب والثقافات واللغات والهويّات «القوميّة» المتعددة. هنا تتصاعد المطالبات بحقوق «الأقليّات» فى مواجهة مطالبات أخرى بفرض رؤية «الأغلبيّة». ويُستخدَم «الاستفزاز السياسي» على أساس التناقضات الاجتماعيّة بشكلٍ أكبر، ليس فقط من قبل قوى وشخصيّات سياسيّة محليّة بل أيضا وخاصّةً من قبل القوى الخارجيّة.
فى الواقع ومنذ القرن التاسع عشر، استخدمت القوى الاستعماريّة التناقضات الداخليّة للبلدان التى ذهبت لاستعمارها وابتكرت على قاعدة مبدأ «فرّق تسد» مفهوم «الأقليّات» كي تتغلغل رويدا رويدا وتفرض نفوذها. هذا فى حين كان جوهر نضال نُخَب البلدان التى تمّ استعمارها هو توحيد الصفوف حول مفاهيم «المواطنة» ونبذ التناقضات الداخليّة. والمثال البليغ على ذلك رفع شعار «الدين لله والوطن للجميع» فى ثورة مصر فى 1919 وفى الثورة السوريّة الكبرى فى 1925.
لكن عهد الاستعمار المباشر انتهى واندثر فى أغلب البلدان منذ الحرب العالميّة الثانية وزال أيضا العصر التي تمحورت فيه الصراعات السياسيّة الداخليّة حول صيغة الاقتصاد الاجتماعي للبلدان، بين الاشتراكية و«الشيوعيّة» من ناحية والرأسمالية و«الليبرالية» من ناحية أخرى، وفى خلفيّة ذلك الصراع برز قطبان هما الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة.
في مثل ذلك السياق أضحت لعبة الجغرافيا السياسيّة الدوليّة والإقليميّة مفتوحة أكثر، تعتمد ما يسمّى «القوّة الناعمة» وليس القوّة المباشرة إلا نادرًا، وأفرغت الصراعات الداخليّة حول صيغة الاقتصاد الاجتماعي من محتواها فى أغلب البلدان. وبات «الاستفزاز السياسي» على أسس التناقضات الداخليّة للبلدان سمةً للعبة متداخلة داخليّة خارجيّة فى جميعّ أنحاء العالم. أمثلة الأصول المكسيكيّة أو الزنجيّة فى الولايات المتحدة بليغة بهذا الصدد، وكذلك الشيشان فى روسيا، والأيغور فى الصين.
تنفجر التناقضات الاجتماعيّة الداخليّة خاصّةً عندما يتعرّض بلدٌ ما لأزمة. والأزمات هى دومًا عنوانٌ لفشل السلطة السياسيّة القائمة فى إدارة الدولة والمجتمع. ذلك إن نتجت عن سياسات ماليّة واقتصاديّة أم عن سياسات اجتماعيّة. وهنا تلجأ السلطة السياسيّة إلى تفجير التناقضات الداخليّة قصدًا و«عن سابق إصرار وتصميم» كي تقسِّمَ المجتمع بحيث لا يتوحّد ضدّها ويحاسبها على هذا الفشل. وبالتوازي تضعُف مكانة الدولة ودورها حُكما من جرّاء الأزمة فيدخل البلد المعنى ضمن لعبة أممٍ تنخرط فى التناقضات الداخليّة التى تؤجّج انفجارها. وتختلط المظالم بالمطامع والصراعات الداخليّة بصراعات الدول. أمثلة العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان جليّة في هذا السياق مهما تنوّعت طبيعة التناقضات الداخليّة في هذه البلدان.
•••
بالتأكيد ليس سهلا على من يأخذ على عاتقه الدفاع عن مجتمع البلد ككلّ وعن «المواطنة» أن يواجه فى الوقت ذاته سياسات السلطة القائمة فى شرذمة المجتمع وسياسات الدول الخارجيّة فى مفاقمة هذه الشرذمة. خاصّة عندما تتفاقم الشرذمة وتحمل الأطراف الداخليّة سلاحا لخدمة «أمراء» يدّعون تحصين فئاتها.
السلطة تستخدم، وستستخدم، دائما كلّ السبل للبقاء فى الحكم. والدول ستستخدم كّل الوسائل كى تتقاسم النفوذ أو لفرض سيطرتها. و«أمراء الحرب» سيعملون على تقويض أيّة محاولة لتغيير اللعبة السياسيّة من إشاعة الشرذمة إلى توحيد المجتمع؛ لأنّ ذلك سيُلغى مبرّرات هيمنتهم ولو الجزئيّة. وكلّما برزت بوادر تغيير، سواء من جرّاء عمليّة داخليّة أو نتيجة بداية توافق دوليّ، سيعمل كلّ هؤلاء أو مجموعة منهم للحفاظ على مكتسبات ما قبل الأزمة أو ما حصلوا عليه خلال تفجّرها كي يضحى موضوع التفاوض على التغيير متعلّقا بمصالحهم ومواقعهم وليس بمصلحة المجتمع.
•••
هكذا سيعمل جميع «أمراء الحرب» اللبنانيّين على تفجير الخطاب الطائفيّ، بل الوضع الأمنيّ، كى لا يحدث أيّ تغيير. وستستمرّ السلطة السوريّة في انتهاج سياسة إمّا الخضوع لى أو الإرهاب كى لا يحدث أيضا أيّ تغيير.
وسيوجّه هؤلاء الداخليّون كما اللاعبون الخارجيّون سهامهم إلى كلّ من يسمّونهم «رماديّون» ولا ينخرطون فى التناقضات الداخليّة، كى يختاروا موقفهم من هذه الفئة الداخليّة أو تلك. أهذه مسئولة عن تفجير الأوضاع أم الأخرى؟ وأسئلة أخرى مثل: هل أنتم مع السلطة أم مع «الإدارة الذاتيّة» للشمال الشرقي أم «معارضة الشمال الغربي» في سوريا؟ وهل أنتم مع «الأقليّات» أم مع «الأغلبيّة»؟ وهل أنتم يا عراقيوّن مع هذه الفئة الكرديّة أو السنيّة أو الشيعيّة؟ كلّ ذلك لتوريط المدافعين عن كلّ المجتمع وعن المواطنة المتساوية وهم أيضا في لعبة الشرذمة وفي لعبة الأمم.
لعبة «قذرة» يدفع نحوها القائمون على السلطة وعلى التناقضات الداخليّة، وكذلك الدول الخارجيّة، هذه وأولئك يدفعون فى «لعبتهم» المجتمع إلى الخوف والتقوقع، بل إلى العنف. ولا يخشون انفجار هذا العنف دون إمكانيّة ضبطه كما يظنّون.
وبالتأكيد ليس سهلًا الدفاع عن المجتمع ككلّ، خاصّةً فى زمن الأزمات وتفجير «الاستفزاز السياسي» على أسس تناقضات داخليّة موروثة منذ أزمنة بعيدة غابرة. لم يكن ذلك سهلًا يومًا ما، لا في ظلّ الاستعمار المباشر ولا اليوم في زمن ضعف، أو بالأحرى الإضعاف الممنهج، للنضالات الاقتصاديّة الاجتماعيّة.
لكن في المحصّلة يشكّل «الاستفزاز السياسى» على خلفية التناقضات الداخليّة والعمل على تفجيره بالتحديد دليلًا على ضعف العاملين على تأجيجه.. وبالتالي يبقى احتمال التغيير.. حقيقيّا.