بائعو الأوهام: سرقة الوقت والقدرة على تقسيمه

منذ نهاية الحرب على الأقل، وبائعو الأوهام يسيطرون على الحياة السياسية ويتمسكون بالقدرة على تقسيم الوقت، ليس فقط بين ما يسمى “ساعات عمل”، و”ساعات راحة”، و”ساعات نوم”، بل يسرقون قدرتنا على التركيز والتخيّل أيضًا. لقد بنوا وهم “حياة الرفاه” التي كان بإمكان الجميع الوصول إليها عبر استغلال الأموال من الخارج من دول “صديقة” أو من المغتربين، عن طريق تثبيت سعر الصرف الذي ساهم ببقاء الوهم بأن الأمور ثابتة ولا تتغير. لكن من منا لم يلحظ شخصيًّا أو عن طريق معارفه بأن الوقت، والتركيز، والمكان أصبحت سلعة، تُشرى وتباع، إما عن طريق العمل في أكثر من وظيفة من أجل تأمين أساسيات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن وتعليم، أو عن طريق القلق الدائم لتأمين هذه الأساسيات. ألم نلاحظ أيضًا بأن الشباب قد قُيِّدوا بأهداف معينة تعكس حرية زائفة -هجرة زائفة- بحيث يحاول الفرد الفرار من الواقع الأليم للمجتمع هنا لإيجاد واقع مختلف في الخارج، مع ابقائه على علاقات بالمجتمع في لبنان والتي تفرض عليه العمل المستمر لمساعدة من يعرفهم. وبذلك أصبح الفرد يعيش في عالمين متوازيين في كل لحظة مما يشل حركته وقدرته على التخيل والعمل السياسي. هذان العالمان ليسا منفصلين جغرافيًّا فقط، بل وزمانيًّا أيضًا، إما في الماضي أو في المستقبل، بحيث يصبح الحاضر مجرد محطة لا تتغير ولا يمكن تغييره. هكذا يتم إفراغ العمل السياسي من معناه، والعمل السياسي الحقيقي المتعلق بحياتنا ومقومات عيشنا المباشرة يحصل في الحاضر لأجل الوصول إلى الأهداف المرجوة. العمل السياسي هو ليس الانتظار وتنظيمه كما تفعل السلطة الحالية.

منذ أن ظهر الانهيار إلى العلن، بدأنا نسأل أنفسنا: ماذا حصل؟ وأين كنا وإلى أين نذهب الآن؟

إحدى الأدوات التي استُعملت لسرقة الوقت هي الاستمرار في استعمال الماضي الأليم وابقائه في الحاضر من أجل بناء وهم بأن شيئًا لم يتغير ولا شيء يمكن أن يتغير على الإطلاق. إن هذه الأداة لم تكن لتكون فعالةً لولا التدفق المستمر للأموال من الخارج وسرقة مجهودنا من مقيمين و مغتربين. لكن، مع توقف تدفق الأموال كما في السابق وظهور الانهيار إلى العلن، تستمر عملية سرقة الوقت عبر تدمير مستقبلنا، عبر التوزيع غير العادل أو الهادف للخسائر، وذلك لعجز زعماء الطوائف بسبب تناقض الاهتمامات لديهم في داخل كل طائفة (بين العامل ورب العمل، بين الأساتذة وأصحاب المدارس، وبين أصحاب المصارف والمودع بل والمجتمع) الذي يمنع من إرساء حقوق أساسية وضرورية مثل مجانية التعليم والتغطية الصحية الشاملة.

أداة أخرى تم استعمالها من أجل سرقة الوقت هي زيادة نسبة الدَّين وتحويله إلى المحرك الأساسي للتبادل وبناء العلاقات وتلبية أساسيات حياتنا (التعليم، الصحة، النقل…). فلقد استعمل الدَّين كإحدى الأدوات لتكبيل الفرد في المستقبل عبر فرض توزيع معين من الخسائر؛ فمن جهة تقييد الحريات، ومن جهة أخرى إثراء لا ينتهي لفئة قليلة بسبب خيارات أخذت من قبل من كان ومازال في موقع المسؤولية لإغناء أنفسهم: أصحاب المصارف بالتآمر مع زعماء الطوائف للبقاء في السلطة.

بالعودة الى “الهجرة الزائفة”، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن المشاكل الأساسية المتعلقة بالحقوق من تعليم، طبابة، مسكن… الموجودة في لبنان يعاني منها أيضًا من يقيم في الخارج بحيث هذه الأساسيات يتم تدميرها وتسليمها لخدمة قلة قليلة وهذه إحدى تجليات ما ذكرته حركة مواطنون ومواطنات في دولة بأن لبنان يمثل حالة متقدمة عمّا يحصل في العالم. وهنا يصبح الواقع حقيقة لا مفر منها ويفرض نفسه لإعادة العمل السياسي إلى معناه. وتتحول الحاجة للنظر إلى أولوياتنا، وكيف أن اهتماماتنا الفردية (سكن، تعليم، صحة…) لا يمكن أن نتوصل إليها بطرق فردية، عن طريق الهجرة أو الانعزال و”تدبير الأمور”، بل عبر الأخذ بعين الاعتبار اعتمادها على عوامل أخرى تتخطى المدى الجغرافي للبنان وقواه العاملة. وكل ذلك يتم من خلال تأطير المقدرات بشكل جماعي بما يسمح بتلبية هذه الاحتياجات ومخاطبة اهتمامات فرد.

إذًا، لماذا نبقي الخوف مسيطرًا على أنفسنا مع توسع الشرخ بحائط الوهم؟ ألم يحن الوقت لكي نتحمل مسؤولية حياتنا وندفع باتجاه المجتمع الذي نريده ونستعيد القدرة على تقسيم وقتنا وتركيزنا وأن نرى ونستمتع بنتاج عملنا وجهودنا؟ هذه الخطوة يسبقها حتمًا السؤال: ما هي أولوياتنا ومن أين نبدأ؟

أولوياتنا هي الدفاع عن أنفسنا. فلقد تمت سرقة وقتنا وقدرتنا على تقسيمه و إيهامنا بأن لا شيء تغير مع العلم بأن كل شي كان يتغير لمصلحة أصحاب المصارف. أولوياتنا يجب أن تكون إرساء الحقوق لكي نستعيد القدرة على التخيل والعيش الكريم.