بين فشل الاعتراض وخطر التفكّك: الحاجة ملحّة لعمل ثوري

تتخلّل حياة الأنظمة «الديموقراطية» استحقاقات انتخابية دورية تستخدمها السلطة كأداة لتثبيت شرعيتها. فالولايات المتّحدة تجرّم انتساب المرء أو دعمه لمنظمة شيوعية، وإسرائيل تشترط اعتراف المرشح للكنيست بيهودية الدولة، ولبنان يفرض الترشّح على مقاعد طائفية في دوائر مناطقية (أي طائفية). وهكذا تفرض الأنظمة هيمنة ثقافية على الخطاب السياسي السائد، فلا مقاعد لمن لا يخضعون «only good boys get treats»، وتضمن بذلك استبقاء السلطة ولو تبدّلت وجوهها.

لذا، حين يقرّر نظام ما إجراء الانتخابات عوضاً عن تأجيلها كما حصل عدة مرات في لبنان، استشعاراً منه بمصلحته في إجرائها، يصبح أمام الأحزاب المعارضة خيار: إمّا القبول بشروط اللعبة والسعي لكسب مقاعد ضمن النظام بغية «التغيير من الداخل»، أو رفض شروط اللعبة وعدم السعي لكسب مقاعد، إمّا من خلال مقاطعة الانتخابات أو من خلال خوضها لأهداف أخرى. ولطالما كان الخيار بين هاتين المقاربتين، الأولى اعتراضية «ضمن النظام» والثانية ثورية «على قطيعة مع النظام»، موضع نقاش حاد بين الأحزاب المعارضة كما داخلها.

لذا، أمام واقع البلد المتغيّر وأمام احتمال قرار السلطة بإجراء انتخابات بلدية، لا بدّ من تحليل ما حصل خلال آخر ثلاث استحقاقات انتخابية قررت السلطة إجراءها واستخلاص الدروس من قرارات «المعارضة» بين خيار الاعتراض من الداخل وخيار القطيعة مع السلطة، ومن معاينة الظرف الحالي، بغية تحديد الوجهة.

ثلاثة استحقاقات انتخابية ومقاربتان: ما النتيجة؟
حين قرّر زعماء الطوائف إجراء انتخابات بلدية عام 2016 بهدف ترميم شرعيتهم من بعد «أزمة الزبالة» وبهدف التغطية على هندسات نجمهم الساطع رياض سلامة المالية وتسويتهم الرئاسية، أُطلِقت حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» كمظلّة سياسية لخوض المواجهة. وكي لا تكون المواجهة مواجهة أشخاص «قوم لإقعد محلّك» بل مواجهة السلطة نفسها بخطابها وثقافتها ونهجها، كان الاقتراح آنذاك رفض منطق الانتخابات البلدية الاعتيادي (أي المناطقي والعائلي والـ«لاسياسي») واستبداله بتبني مرشّحين في أكبر 16 بلدية على امتداد الوطن لمشروع سياسي واحد بديل عن «الطوائف والمصارف». كان جواب الكثيرين ممّن عُرضت عليهم المشاركة بهذه المقاربة الثورية «كتير حلو بس مش وقتا»، وكان خيارهم تبني خطاب محلّي اعتيادي لخوض معارك محلية اعتيادية.
حين قرر زعماء الطوائف إجراء انتخابات نيابية عام 2018 لتتويج وحدتهم «الوطنية» وبيعنا وهم الرخاء والنعيم بفضل هديّة «سيدر» السخيّة وملياراتها الطيّبة، جهدنا لتظهير بديل يستبق الأزمة المحتومة، أي بديل على قطيعة تامّة مع الخطاب السائد آنذاك، بديل يختار التضحية بأصوات من لن تروق لهم تحذيرات «البومة» لكنه يكسب شرعية استباقاً للأزمة المحتومة ويرسّخ في وعي المجتمع أن هناك في لبنان جبهة سياسية متينة استبقت الأزمة وجاهزة لاستلام السلطة وإدارة الأزمة ومشروعها الانتقال من «الطوائف والمصارف» إلى دولة. مجدّداً، قوبِل طرحنا بالكثير من الـ«كتير حلو بس مش وقتا»، فلم ننجح بقدر طموحنا وخطورة الوضع، وقبلنا بتحالف انتخابي ضمن لوائح شبه موحدة في غالبية الدوائر، ولكن من دون مشروع سياسي واضح وواحد، فمُزج بين المقاربة الاعتراضية والمقاربة الثورية.

حين قرر زعماء الطوائف إجراء انتخابات نيابية عام 2022 بعد إفشال انتفاضة 17 تشرين وسعياً لترسيخ شرعيتهم قبل ازدياد الوضع سوءاً، سعينا مجدداً لتشكيل جبهة سياسية تعلن القطيعة مع السلطة، أي أن مرشحيها يرفضون التحالف مع «الطوائف والمصارف» ويعلنون جهراً عدم اعترافهم بشرعية «مجلس الأستاذ» وعدم اكتراثهم لنيل مقاعد في «مدرسته» وتشكيلهم لمجلس وطني بديل يعلن القطيعة مع النظام القبائلي ويتبنّى مشروعاً واضحاً واحداً لفرض الانتقال إلى سلطة دولة قادرة على إدارة الأزمة. كان جواب العديد ممّن كنّا نتمنّى تشكيل البديل سويّاً، مجدّداً، «كتير حلو بس مش وقتا». فالـ«وقت» كان لعقد تحالفات ظرفيّة وفق قانون «قايين وهابيل» (أو «قابيل وهابيل»، احتراماً للميثاقية) والاستفادة من شعبية أصحاب «الحيثيات» لتأمين الحواصل الثمينة. وهكذا شهدنا اصطفاف «العلمانيين» إلى جانب دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية والتمسّك بطرح البطرك و«صحّة» التمثيل الطائفي وردّ الاعتبار لمقاعد الطائفة الكريمة، واصطفاف «اليساريين» إلى جانب أبطال حماية أصحاب المصارف وتحميل المجتمع الخسائر ومنصّات التمويل وملايينها الغالية… أي، لنقلها بصراحة، الاصطفاف مع السلطة، والسعي للعب دور اعتراضي ضمنها بدل إعلان القطيعة معها وتشكيل البديل عنها.
نعلم يقيناً أن عين عدد من «التغييريين» كانت على الكرسي ومجدها. لكننا نعلم أيضاً أن عدداً منهم صادقون في مسعاهم الاعتراضي، أي اختيارهم المقاربة الاعتراضية عوض المقاربة الثورية. واليوم، بعد سنة من إجراء الانتخابات ونتائج نواب «التغيير» المبهرة، ندعو لاستخلاص الدروس، أو على الأقلّ درس واحد: ادفنوا أكذوبة «التغيير من الداخل» مرّة وإلى الأبد، ولنتبنَّ الخيار الثوري للعمل على فرض الانتقال من سلطتهم العاجزة لدولة قادرة. فالأزمة لم تنتهِ، والظرف بات أشدّ خطورة ممّا كان عليه خلال آخر 30 سنة، وواقع جديد، مع فرصة جديدة، يرتسمان أمامنا.

الظرف الحالي: الانتقال إلى سلطة جديدة عنوانها التفكّك إلى معسكرات
تنشأ علاقة سلطة بين فريق يسعى لنيلها ومجتمع من الناس حين يتمكّن هذا الفريق من الردّ على قلق المجتمع الوجودي، أي حين يستشعر هذا المجتمع أن هذا الفريق يشكّل ضمانة لوجوده ويحميه من مصادر قلقه (الحقيقية منها كما المتخيّلة). وهكذا نال أمراء الحرب شرعية سلطوية زعاماتية أمام «جماعتهم» حين استطاعوا، أو أوحوا أنهم يستطيعون، حمايتهم من «الآخر» (الفلسطيني أو السوري أو الإسرائيلي، ودوماً اللبناني «الآخر»). أمّا بعد انتهاء الحرب وتحوّل العنف العسكري إلى عنف أكثر استتارة، فقد استمرّ هؤلاء الأمراء في خطابهم القبائلي البطولي، لكنّهم أدركوا أيضاً الحاجة إلى الردّ على قلق من نوع آخر، وهو قلق «جماعاتهم» المعيشي. وهكذا «عمّروا» (ولا بأس إذا سرقوا، فهم الردّ على قلقنا، والقلقون يرتضون) وأسّسوا لنظام يردّ على قلق الناس من خلال تأمين عدد من حقوقهم الأساسية بواسطة شبكات زبائنية متعدّدة الأشكال، وتشمل بشكل رئيسي الادعاء أن الدولار يساوي 1500 ليرة ممّا يتيح نعيم التمتّع بالآيفونات والراينج روفرات وفنادق شرم الشيخ وعمليات البوتوكس، تأمين وظائف في سكّة الحديد ووكالة الطاقة الذرية وغيرها من المؤسسات الرفيعة الشأن، تأمين شيء يشبه التعليم في مدارس الدولة وشيء يشبه الصحة من خلال الضمان الاجتماعي، وغض النظر عن تشكيل سلطات محليّة خارجة عن إطار الدولة وصاحبة التمويل المشبوه كالمافيات والمنظمات «غير الحكومية» والفصائل الفلسطينية عند المحرومين من التعليم والصحة وبقية الحقوق كسكّان الأطراف والمخيّمات. أمّا تمويل تركيبتهم العظيمة فكان من خلال ابتكار إمكانية الاقتراض بالدولار من الخارج (مش ضروري نردّهم، «بتتهندس») ومن المصارف (كمان مش ضروري نردّهم، «بينعاد تكوينها»)، وتهجير الشباب كي يعودوا ويطلّون (أهلا) مع حفنة من الدولارات (أهلا، أهلا).
كان فشل نظامهم محتوماً. فتبيّن أن القروض يجب إيفاؤها (نهاية غير متوقّعة)، وأنّ الاتكال على دولارات الخارج يعني الوقوع ضحية تقلبات الخارج (نهاية غير متوقّعة إطلاقاً). لذا حذّرنا، نحن وغيرنا، من الانهيار الآتي لا محالة، وهو الذي وقع عام 2019. فسقطت سلطتهم، أي سقط النموذج الذي ابتدعوه للردّ على قلق الناس، وابتدأ انتقال السلطة، أي الانتقال إلى تركيبة جديدة تردّ بطرق جديدة على قلق «جماعاتهم». وها هي اليوم معالم هذه السلطة الجديدة تظهر، وعنوانها التفكك إلى معسكرات محلية. فما كان يُعرف بائتلاف زعماء الطوائف لم يعد موجوداً: فالستّة باتوا أربعة، واحداً منهم سيتوفاه الله بعد عمر طويل والآخر قلق رغم تخلّصه من منافسيه الإثنين، والآخران أصبحا قطبين متضادين مرتبطين بمحاور إقليمية متبدّلة؛ والدولار لم يعد يساوي 1500 ليرة، ولا حتى بالشكل، وتوظيفات الـ«دولة» لم تعد مغرية، وركائز الاستقرار المركزية، كالضمان الصحّي المحتضر والتعليم المؤضرِب والأمن من خلال عباس إبراهيم المستقيل والمال من خلال رياض سلامة الموشك على الاستقالة، تتحلّل.
من بعد بلوغ الأدوات القديمة، المركزية نوعاً ما، تاريخ انتهائها، يرتسم أمامنا واقع جديد، وهو نشوء معسكرات مناطقية و/أو طائفية، لكلّ منها «حنفيّتها» الخاصة من الدولارات. فإمّا أن تأتي من دولة ما من خلال الزعيم-الطائفة أو من خلال منظمات «غير حكومية»، أو من حيتان المال الجدد و/أو القدم وملياراتهم المشبوهة. وهكذا تصبح ساحة الـ«مجتمع» اللبناني مفتوحة لتدخّل ما هبّ ودبّ من أجهزة مخابرات العالم، القطرية والإماراتية والسعودية والإيرانية والفرنسية والألمانية والأميركية و، طبعاً، الإسرائيلية، من خلال مشاريع لطيفة كتأمين خدمات صحّية «مجانية» وكراتين «إعاشة»، ووسط دعوات للعنة الآخر (تارةً الحصار الأميركي وطوراً الاحتلال الإيراني ودائماً اللاجئ السوري المكثر من أكل الخبز)، ووفقاً لطوَفان الأبناء (من دون البنات، فلا مكان لهؤلاء في الطائفة) الدؤوب حول زعيم الطائفة و/أو المنطقة، في معسكرات هوياتية عدوانية تشبه على نحو لافت المشروع الصهيوني لإقامة دولة-قلعة خاصّة بـ«أبناء الدين الواحد».

في هذا السياق، يأتي استحقاق الانتخابات البلدية، إن ارتأى الزعماء أن من مصلحتهم إجراءها، تحديداً لترسيخ هذا الواقع المفكّك الجديد. وها هي أجراس الفيدرالية تُقرع وسط شيطنة للآخر (فالحق كلّه عليهم، لا علينا، والحمد لله) ودعوات للامركزية مالية (فالخزينة تفيض بالمال، والحمد لله) ومطالبات صريحة ووقحة بتمويل خارجي مباشر لهذه المعسكرات الجديدة بحجّة «فساد الدولة» (فالزعيم اللامركزي قدّيس، والحمد له).
لا. لن نشارك. أوّلاً، لأننا تعلّمنا من فشل الـ 2016 وفشل الـ 2018 وفشل الـ 2022، ولن نهدر طاقاتنا في محاولة بناء جبهة سياسية ثورية مع من ما زالوا يراهنون على المقاربة الاعتراضية، مع احترامنا للعديد منهم. ثانياً، لأن الظرف خطر، والمساهمة في إضفاء شرعية إضافية على منطق المعسكرات، ولو عن طيب نية، يرتقي إلى الجريمة. ثالثاً، لأن الحاجة لحشد كل الطاقات في مواجهة من نوع آخر، وهي مواجهة مجدية، ملحّة. فانحلال ما تبقّى من الدولة والقليل من الحقوق التي كانت تؤمّنها يشكّل ثغرة في النظام الذي يحتضر. ثغرة يعملون على سدّها من خلال معسكراتهم الطائفية. وبالتالي، ثغرة يجب العمل على سدّها من خلال إرساء منطق جديد وهو منطق الدولة. فأمام موظّفي القطاع العام، في التعليم والصحة والقضاء والاتصالات والخدمات الأساسية الأخرى وغيرها، الذين تخلّى عنهم الزعماء في سياق الانتقال من شكل السلطة التي ابتُدِعت في التسعينيات إلى سلطة المعسكرات الطائفية، فرصة للعب دور إنقاذي، وهو دور الانتقال من موظفين تحت أمرة الزعماء إلى أصحاب القرار الإجرائي والتنفيذي، أي مقارعة الزعماء على شرعية سلطتهم، إنقاذاً لهم ولعائلاتهم وللمجتمع: فأمام انحلال الدولة، على موظّفيها أن يصبحوا هم الدولة.
أمام موظّفي القطاع العام، مؤدي الخدمات العامة، اليوم، فرصة، بل مسؤولية، أن يكونوا فاعلين حقيقيّين لا مفعولاً بهم. لذا، تسعى حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» على نقل تشخيصها لخطر المعسكرات المحدق بنا إلى هذه الفئة من مجتمعنا، لتمسك بزمام الأمور ولتنتقل من موضع المطالبة من سلطة قررت التضحية بهم إلى موضع المخاصمة الحقيقية لها، وبلورة ترجمة عملية لهذه المقاربة بشكل يتوافق مع حاجات وخصوصيات كل قطاع. في وجه خطر التفكّك إلى معسكرات، ليكن خيارنا المواجهة وفرض الانتقال من سلطة القبائل البالية لسلطة دولة قادرة.

* عضو في حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»