17 تشرين: لإعادة النظر
كاد يكون 17 تشرين مفصلًا مهمًّا في تاريخ لبنان، أي لحظة قطيعة لتخطي مرحلة نظام زعماء الطوائف الذي استمر 30 عامًا، والذي دمّر المجتمع ورسّخ في ذهن اللبنانيين واللبنانيات أن لا بديل عنه سوى الخراب.
لم تأتِ هذه اللحظة صدفة: دخل لبنان في عجز في ميزان المدفوعات منذ العام 2014، مما حتّم حصول الأزمة المالية التي وصل إليها لبنان. خلال هذا الوقت، راهن زعماء الطوائف على مناورات مصرف لبنان بالهندسات المالية عام 2016، و”استعادة الثقة” من خلال انتخابات العام 2018، مع دعم معنوي خارجي تمثّل بوعود مؤتمر “سيدر”، الذي صوّر المنظومة بمظهر القوة والتماسك وأدّى إلى فوزها الكاسح.
أمام هذا الواقع، وبشكل استباقي، قامت حركة “مواطنون ومواطنات في دولة” بإرسال كتاب لكل المسؤولين: الزعماء الستة، حاكم مصرف لبنان، جمعية المصارف، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن. الرسالة كانت واضحة: الحث على مخاطر الرهانات المتمادية، والدعوة للتلاقي من أجل تخطي النظام. لم نفلح.
وبالرغم من كل محاولات المنظومة لإستعادة أنفاسها، أكان من خلال تشكيل حكومة الحريري أو بالمناورات لضخ ثقة مصتنعة، أدّى تراكم الأزمات، أكانت الأمنية أو المالية، إلى تظاهرات حاشدة غيّرت جدول أعمال السلطة. في لحظة من الزمن، ارتبكت المنظومة أمام هول الإحتجاج، وبتخبطها، بدت مستعدة للتفاوض على انتقال السلطة.
إلا أن ردة الفعل أتت لاذعة. انقسم الزعماء إلى طرفين: جماعة المناورة، الذين اعتبروا أن التظاهرات هي إشارة لتبدّل اقليمي يجب ركوبه لتحصين الموقع، وجماعة المؤامرة، الذين قدّروا أن التظاهرات جزء من الحصار ويجب التصدي لها. ما بين هؤلاء، فاتت فرصة تاريخية لتخطي نظام زعماء الطوائف، الذي ناور بكل قواه من أجل بقائه.
والنتيجة كانت حكومة حسان دياب الواجهة، التي لم تأخذ أي قرار سوى قرار عدم دفع سندات اليوروبوند. انكبت فيما بعد على اعداد خطة “لازارد”، وهنا برزت مكامن السلطة الحقيقية في لبنان: في ظل عدم قبول المصارف بتحمل حصتها من الخسائر، اجتمع ممثلو الزعماء الستة، بالإضافة إلى ممثل الميقاتي، فيما سمّيت “لجنة تقصي الحقائق”، حيث قاموا بإنكار وجود أي خسارة.
تُرجم ذلك بتعدد أسعار الصرف وهبوط القدرة الشرائية، ناهيك عن النقص الحاد في المواد الأساسية والمحروقات والأدوية، وانعدام قدرة تحديد أسعار السلع والأجور. كل ذلك من أجل بقاء المنظومة.
وفي هذا الوقت، تم هدر ما يفوق 20 مليار دولار من موجودات مصرف لبنان على ما سميّ بالدعم، التي كان يمكن استعمالها لتحصين المجتمع. أما الأهم، فهو الهجرة الجارفة التي تفرغ لبنان من أهم مورد لديه في حال استمرت.
الآن، وفي ظل تقدّم الحلقة المالية على الزعماء، تم تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، رجل المناورات والرهانات الإقليمية، ورياض سلامة، ممثلًا بوزير المال. إنها حكومة العجز التام، وقد أظهرت ذلك في تعاملها مع كل ما حصل في عهدها، من رفع الدعم عن السلع والعقبات الإجتماعية منه، إلى التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، وصولًا إلى أحداث الرابع عشر من تشرين الأول 2021.
في وجه نظام العجز والإجرام، يبقى البديل موجودًا. طرحت الحركة، في ورقة سياسية صادرة في 17 تشرين الثاني 2019، أي بعد شهر على بدء الاحتجاجات، مشروع الانتقال من نظام زعماء الطوائف إلى الدولة المدنية العادلة والقادرة. وقد اعتبرت الحركة أن كل يوم تبقى فيه المنظومة هو هدر للوقت وللموارد وللقدرات البشرية في المجتمع. كانت حينها الخسائر ما زالت محدودة نسبيًّا، وكان من الممكن تخطي المرحلة بشكل أسهل. ولي شعار “يا مدنية، يا خراب” إلا تعبيرًا عمّا نعيشه اليوم، فإمّا دولة تحافظ على المجتمع وعلى تماسكه، أو تفتت مجتمعي وتفكك أسري وهجرة واحتراب داخلي!
اليوم، يبقى الرهان هو نفسه. بالرغم من تقلّص الموارد المتاحة، أكانت الموارد المادية أو البشرية، يبقى من واجب كل مواطن ومواطنة مواجهة منظومة العجز والإجرام. كانت لحظة 17 تشرين لحظة مباركة كونها هزّت عرش النظام، إلا أن الاحتجاج وحده لا يكفي. الردّ الحقيقي يكون من خلال القطيعة مع نظام الزعماء، وفرض التفاوض على انتقال سلمي للسلطة من أجل إقامة دولة مدنية عادلة وقادرة، تحصّن المجتمع ضد المخاطر الخارجية، وتحميه من نفسه.
17 تشرين ليس يوم احتفال أو ندم، بل هو يوم، مثل كل الأيام، لنقد التجربة والعمل نحو التغيير.