ما هي الدولة المدنية؟ 

مقال ل نيبال ضوّ، عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة نشر في تاريخ ٣٠ حزيران ٢٠٢٠

الإنسان بطبيعته هو عدو ما يجهل، والسبب الأغلب إن لم يكن الأوحد هو الخوف من المجهول.

بما أنّ الفكر هو العنصر الرئيسي في كلّ شيء يتعلّق بوجودنا، يميل المرء إلى ما يُريحُ فكره الفكر ويغنيه عن جهد التفكير والتحليل والاجتهاد الشخصي، ويضمن له جوّاً من الاستقرار والطمأنينة بعيداً من التشويش والضياع، فيتبنّى أفكاراً ويتبع أسلوب حياة معيّن. وبما أنّ الخوف من الأشياء هو المحور الأساسي، تبقى الفلسفات والتأويلات والاجتهادات الدينية هي الأسلم بالنسبة للغالبية، إن لم نقل للأكثرية السَّاحقة.

غالباً ما نقع في فخّ ما نسمّيه شبح المصطلحات، أي “الرموز اللغوية ذات المفاهيم المحدّدة”. فمع تغيّر أنماط العيش وتبدّلها وتوسّع الفلسفات والثقافات وتمدّدها وتطوّر العلوم وتقدّمها خصوصاً في المجال الإنساني والاجتماعي، ظهرت مصطلحات جديدة تُلخّص الواقع المطلوب في مجالات شتى، مثل أنظمة الدول، حيث تكون هذه المفاهيم أو المصطلحات الجديدة غريبة للبعض، وربّما مُخيفة للبعض الآخر.

منهم من يتعمّق بها ويستكشفها يدرسها ويُحلّل ماهيتها ويقرأ نتائجها، سلبية كانت أم إيجابية، بشكل موضوعي ويأخذ موقف الداعم أو الرافض لها، ويعمل بجهد على قراءة واقعه والتعرّف إليه وربطه بها. ومنهم من يَستَعلم بها ويعمل على زجّها في أحاديثه اليومية من دون دراية كافية بها، فيقع في أول منزلق لغوي يؤدّي إلى تشويه مفهومها عن قصد أو غير قصد. ومنهم وهم الأكثرية يرفُضون حتى التفكير بها أو تصوّرها وتبقى عدّوتهم لجهلهم بها.

الأمر نفسه ينطبق على مطالبتنا بدولة قادرة عادلة، في بلد مثل لبنان من الناحية الاجتماعية، وتنوّع طوائفه وتركيبته السياسيّة ووقوعه الجغرافي في إقليم متوتر وإلى جانبه عدوّ غاصب متربص، إذ لا يمكن أن تقوم هذه الدولة إلّا إذا كانت دولة مدنية.

قد يتماشى الكل بإعجاب وتأييد مع الصفات المذكورة مسبقاً إلى حين الوصول إلى كلمة مدنية، التي قد ينبذها البعض ويحبّذها البعض الآخر.

في هذا المقال سنضع مفهوم الدولة المدنية تحت المجهر ليكون واضحاً ومفهوماً، وسنحاول ربطه بما يخدم واقعنا في محاولة لإزالة التباسات وشكوك ومخاوف حول هذا المفهوم.

الدولة المدنية وفق التعاريف الكثيرة هي دولة تحمي جميع أعضاء المجتمع وتحافظ عليهم بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية والقومية والفكرية، حيث يتمتعون بحقوق وعليهم واجبات.

بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أن الدستور يُعرِّف الدولة اللبنانية على أنها دولة مدنية بالصميم تحترم كلّ الأديان، فهي لا تنصّ على دين للدولة ولا لرئيس الدولة أو أي مناصب أخرى. أيضاً ينصّ الدستور على أن حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية للجميع وتحميها شرط ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، بالإضافة إلى اتباع أحد أبرز مبادئ الدولة المدنية وهو فصل السلطات، ولا سيّما السلطة القضائية وجعلها مستقلة بذاتها.

لكن ذلك هو عكس ما نراه في الواقع. التقسيم الطائفي الحالي كان يفترض أن يكون استثنائياً ولفترة انتقالية مؤقتة حتى تستعيد الدولة عافيتها. إلّا أن الاستثنائي أصبح قاعدة والمؤقّت تحوّل إلى دائم، ومعه أصبح كثير من الناس يتشبثون بعنعنات من التحزّبات الدينية فقط لا غير، فيما لا يجرأ القضاء على محاسبة أحد  تحت مسمى الخطوط الحمراء… وفهمكم كفاية.

قد يظن البعض بأنَّ الدولة المدنية مناهضة للدين وتعمل على تقليص دوره في المجتمع، أو أنها تضرب بأحكام الله عرض الحائط. وهذا هو أكثر ما يُضر بمفهوم الدولة المدنية ويُشوهه.

تَحكُم الدولة المدنية من خلال قوانين منظّمة من دون الخروج عن الحدود التي نصّت عليها كل ديانات الأرض وآخرها الديانة الإسلامية. يقول د. محمد شحرور أنّ النبي ختم التشريع الإلهي بختم المحرمات وبدأ التشريع الإنساني بتنظيم الحلال. الدولة لا تُشرِّع ما هو محرّم إنسانياً وبالتالي دينياً، بل تملك حقّ تشريع ما أحلّته الديانات، فتُنظّم حدّاً أعلى للعقوبة وحدّاً أدنى لها، وحدّاً أعلى للغرامات والضرائب وحدّاً أدنى، إلخ… لتنظيم العلاقات الاجتماعية والأخلاقية والقانونية والمالية والسياسية والاقتصادية بين الناس.

الدولة المدنية تسمح بالتعدّدية وتفرض على الجميع احترام الجميع. لا يوجد مواطن فئة أولى أو آخر فئة ثانية. الجميع سواسية أمامها. لا يُنتهك ضمنها حقوق أحد على حساب الآخر ولا تمنح فئة معيّنة إمتيازات وصلاحيات وتحرّم أخرى. لا تغضّ النظر عن بعض منتهكي القوانين ومرتكبي الجرائم والتعدّيات وتحاسب البعض الآخر.

باختصار في الدولة المدنية لا أحد فوق المساءلة!

الدولة المدنية تكفل للأفراد، كما يكفل الدين لهم، حرية الكفر والايمان وفق ما ورد في سورة الكهف آية 29 (فمن شاء فَليؤمن ومَن شاء فليكفر)، فيما أشارت سورٍ أخرى (لا إكراه في الدين…) فالإنسان خُلق حرّاً ومخيّراً ليمارس الخطأ والصواب، الخير والشرّ، الإيمان والكفر، وبذلك يكون الحساب بيد الله فقط، فهو لم يعطِ السلطة لأحد على هذه الغبراء ليحكم بإسمه. ومتى وُجِدَت الحرية المنشودة تفاعل الإيمان بحقّ، فهو يكون نتيجة اجتهاد شخصي في كشف حقيقة هذا الوجود. وكلّما كان هذا الإيمان بعيداً من الضغط والفرض والتخويف والتشويش كان أقوى وعكس انفتاحاً إيجابياً على الآخرين، ولن تكون نتيجته إلّا التقدّم والتطوّر والازدهار. فالدين والايمان مكانهما النفوس والقلوب وليس المقاعد السياسية. إن زاد عدد التمثيل السياسي لطائفة ما، فهذا لا يعني إطلاقاً زيادة عدد مؤمنيها أو ثبات إيمانهم. فهذا النموذج القائم على ربط التمثيل السياسي بالتمثيل الطائفي لا يعمل إلّا على تجريد الأديان من أهدافها السامية وتسخيف مضمونها لا بالأحرى تشويهها.

في الوقت نفسه، لا تشجّع الدولة المدنية على ما يضرّ بالمجتمع وتركيبته. الدولة إن كانت تملك المعرفة والقوة فهي قادرة على قراءة مجتمعها وخصوصياته لتعمل ضمن أطُره، علماً أن الأحكام والقوانين تتطوّر وتتغيّر مع تغيّر أحوال الشعوب وتطوّرها، وهي توضع لخدمة الفرد والمجتمع وليس العكس.

الدولة المدنية تفرض المساواة بين الرجل والمرأة في كافة الحقوق والواجبات. وتُوَحّد قوانين الأحوال الشخصية ليكون العدل والحق سيّدي الموقف، كي لا تؤكل حقوق أحد، ولا يستملك القوي الضعي، ولا تبرّر أعمال العنف ضد المرأة على سبيل المثال لا الحصر.

الدولة المدنية تفرض، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، كل الفضائل التي تصون الإنسانية وتدفعها للارتقاء. تفرض المواطنة وقبول الآخر والتسامح والسلام والثقة والمساواة والديمقراطية والعدل والأمن ومقاومة الخطر بكل أشكاله.

باختصار، الهدف الأسمى من الدولة المدنية ليس عزل وإلغاء أتباع الأديان وأخلاقياتها، بل اقتلاع الطائفية السياسية من جذورها، فتصبح علاقة الناس مع الدولة مباشرة للحصول على حقوقهم، لا وسيط بينهما يسيطر على المجتمع ويتحكّم به.

حلمنا في الدولة المدنية إيصال الكفاءات إلى المكان المناسب وعدم حرمان الكفوئين من وظائف بسبب التقسيم الطائفي، جمع الأزواج من ديانات مختلفة دون الاضطرار إلى تغيير الدين، محاسبة المرتكب لا أن تحميه الطائفة بما يشجّع على الفساد والسرقة والاعتداء على حقوق الغير والغش، بأن يعمل من يصل إلى مراكز القرار لصالح كلّ المواطنين والمواطنات بمعزل عن دينهم ومنطقتهم… حلمنا في الدولة المدنية أن يكون الشعب اللبناني يداً وحدة، لديهم رؤى مشتركة حول مصلحة بلدهم، بدل أن تتبع كلّ طائفة لدولة خارجية فتستمدّ القوة منها، أي أن تكون دولة مستقلة تتعاطى مع كل الخارج على أنهم خارج، ولا أحد يملك السلطة بالتدخل بقراراتها وسياستها، دولة تعرف عدوها من صديقها وتُنظِم علاقاتها على هذا الأساس. دولة مقاومة بكافة أطيافها وعتادها أمام اي خطر خارجي، وأن لا يكون لكلّ طائفة عدو خارجي أو داخلي خاص بها. حلمنا في الدولة المدنية أن يكون لدينا قضاء مستقل يحكم بعدل، أن تؤمّن الخدمات الأساسية للمواطن وأهمّها التغطية الصحية الشاملة والتعليم المجّاني لكلّ المقيمين، مع منهج تعليمي موحّد يضمن أن تبقى كرامة شعبك مرفوعة ومضمونة، أن توفّر العمل وتحمي المجتمع من البطالة والفقر والهجرة. 

هذه الدولة المدنية، وبالتالي لا تتعلّق بشكل اللباس أو التصرّفات، كما يظنّ البعض.

أمام هشاشة شكل الدولة في لبنان، تبرز الحاجة إلى دولة فعلية قادرة وعادلة، وهو موقف ثابت ويزداد صلابة وإصرار يوم بعد يوم، نتيجة ما يفرضه الواقع لانتشال المجتمع من الانهيار، والوطن من بؤرة الفساد والطائفية اللذين أبعداه عن رسالته الحقيقية في هذا الشرق. صدق من قال: د التقليد مع خطأ ليس محافظة، والتصحيح الذي يُحقق معرفة ليس خروجاً.