عن قيصر وتجّار الهيكل
مقال من كتابة بطرس خليل*
لعب القطاع المصرفيّ دورًا أساسيًّا في لبنان منذ خمسينيّات القرن الماضي. فقد سمح له قانون السّريّة المصرفيّة، الذي أُقرّ في أيلول 1956، بالاستفادة من الخبرات والأموال الهاربة من المآسي في فلسطين ومن موجات التّأميم في سوريا، ومصر، والعراق خلال تلك الحقبة. كما استقطبت المصارف اللّبنانيّة عائدات النّفط العربيّة بدءًا من سبعينيّات القرن الماضي.
لقد تغيّر القطاع المصرفي في لبنان، وتغيّر لاعبوه كلّيًّا أو تغيّر وزنهم خلال الـ٦٥ سنة الماضية، منذ إقرار قانون السّريّة المصرفيّة، بحيث لا يمكن اعتبار شكل هذا القطاع ودوره في الاقتصاد بعد نهاية الحرب الأهلية كاستمراريّة لشكله ودوره السّابقَيْن. منذ بداية التّسعينيّات، أصبح القطاع المصرفيّ عماد الاقتصاد الهشّ الّذي بُنيت عليه البحبوحة الوهميّة الّتي سادت خلال الثلاثين سنةً الماضية؛ وتعاظم نتيجةً لذلك وزنه في الاقتصاد اللّبنانيّ. فإذا قارنّا ميزانيته (Balance Sheet)، والّتي تحوي من جهةِ المطلوبات ودائعَ المقيمين وغير المقيمين والأموال الخاصة بأصحاب المصارف، ومن جهةِ الموجودات القروضَ المعطاة للقطاعين العامّ والخاصّ، نسبةً للنّاتج المحليّ (GDP) نرى أنّها ارتفعت من معدّل 159% بين العامين 1991 و1995 إلى معدّل 476% بين العامين 2015 و2019. علمًا أنّه في العام 2018 بلغ المؤشّر نفسه 442% في سويسرا، 78% في الولايات المتّحدة الأميركيّة، و522% في لبنان. لقد « تفوّقت » سويسرا الشّرق على سويسرا الأصيلة في فئة البلد المصرف! لكنّ المفارقة تكمن في أنّ القطاع المصرفيّ السّويسري وظّف نصف مطلوباته فقط في الدّاخل السّويسريّ والنّصف الباقي وزّعه في استثمارات على بقية بلدان العالم. في حين إنّ المصرفيّين اللّبنانيّين وظّفوا ما يقارب 90% من مطلوبات القطاع المصرفيّ في الدّاخل اللّبنانيّ فخالفوا بذلك أبسط قواعد الوقاية من المخاطر الّتي يتّبعها المستثمرون والتي تقضي بتنويع الاستثمارات لا بتركيزها. ولقد « تفوّق » لبنان أيضًا على الولايات المتّحدة الأميركيّة، الاقتصاد الأوّل في العالم! حيث أدّت هيمنة القطاع المصرفي والتّركيز الممنهج للاقتصاد حوله إلى بلوغ ميزانية هذا القطاع نسبةً للنّاتج المحليّ في بلدنا 6 إلى 7 مرّات مستواها في بلاد العمّ سام باقتصادها المتنوّع وشركاتها العالميّة.
هذه الأرقام بمجملها ليست دليل نجاحٍ للقطاع المصرفيّ اللّبنانيّ، إنّما هي مؤشّر على أنّ وزنه في اقتصاد ما بعد الحرب تضخّم بشكلٍ غريب، وذلك حتّى بالنّسبة لدولٍ تحوي أكبر وأعرق المصارف العالميّة. بالفعل فقد استشعرت المصارف الأجنبيّة العاملة في لبنان المخاطر الكامنة في المسار الجديد للقطاع المصرفيّ اللّبنانيّ، فبدأت منذ أواخر التّسعينيّات بالانسحاب كلّيًّا من لبنان أو بتخفيض مساهمتها في المصارف اللّبنانيّة إلى ما دون عتبة الـ20% الّتي تفرض عليها المساهمة في تغطية الخسائر القادمة لا محالة. بين العامين 1990 و2018 تراجعت حصة المصارف الأجنبية من مجمل ميزانيات القطاع المصرفيّ اللّبنانيّ من 16% إلى 1%، بينما ارتفعت حصة المصارف المحلية الصرف من 30% إلى 64%.
أمّا إذا نظرنا إلى أرباح القطاع المصرفي نسبةً للناتج المحليّ، في العام 2018 على سبيل المثال، فهي 5.6% في لبنان، 1.5% في سويسرا، و0.7% في الولايات المتّحدة الأميركيّة. أي إنّ الأرباح الخاصّة المُصَرّح عنها من قبل أصحاب المصارف اللّبنانيّة كانت في هذه السّنة 3 مليار دولار أميركي (قبل الضّريبة على الأرباح). للمقارنة، فإنّ مجمل الودائع في الحسابات الّتي كانت تحتوي في بداية العام نفسه على 3333 دولار وما دون، بلغ مليار دولار(هذه الفئة من الحسابات تمثّل 60.5% من عدد الحسابات/المودعين)، فيما بلغ مجمل ودائع نقابة المهندسين 367 مليون دولار(عام 2018). لقد ربح أصحاب المصارف أكثر من ضعف مجموع هذين المبلغين في عامٍ واحد فقط!
إنّ أرباح القطاع المصرفيّ اللّبنانيّ، الّتي تشكّل كنسبة من النّاتج المحليّ أربعة أضعاف أرباح المصارف في سويسرا وثمانية أضعاف أرباح المصارف في الولايات المتّحدة الأميركيّة، هي خير دليل على استفادة أصحاب المصارف في لبنان بشكل غير طبيعي على مرّ الـ30 سنة الماضية من التّرتيبة الاقتصاديّة والسّياسيّة السّائدة. والآن وقد وقع الانهيار وتكشّفت الخسائر الّتي تراكمت في القطاع المصرفيّ على مدى ثلاثة عقود، يسعى أصحاب المصارف الّذين راكموا أرباحًا خيالية، إلى التّنصّل من القاعدة الأساسية لعمل الشّركات في أيّ اقتصادٍ حرّ؛ بما أنّ رأسمال الشّركة يسمح لأصحابها بتحقيق الأرباح الخاصّة، فإنّه يكون أوّل من يتحمّل مسؤوليّة امتصاص الخسائر متى تحقّقت.
لا بل لقد بلغت الوقاحة منتهاها في بيان أصحاب المصارف الصّادر في 15 نيسان 2020، حيث قاموا بالتّنصّل من أيّ مسؤوليّة مهنيّة وبتصوير أنفسهم في موقع المتفرّج والضّحيّة، تمامًا كما يفعل نظراؤهم السّياسيون في شقّ إدارة البلد، فقالوا: « فنحن اللبنانيين، لم نصل إلى هنا لأننا تقاعسنا عن العمل، بل لأننا تقاعسنا جميعًا عن المحاسبة ». عن أيّة ثقة نتكلّم عندما يقول الاحترافيّون في القطاع المصرفي إنّهم تقاعسوا عن القيام بعملهم لعقود حتّى انهار الهيكل على رؤوس المجتمع؟ من منّا قام بالاقتراض من المصارف اللّبنانيّة يعرف مستوى التّدقيق قبل الموافقة على أيّ قرض، فأيّ عاقل يُصدّق أنّ أصحاب المصارف لم يكونوا يعلمون كيف ستنتهي لعبة الرّوليت مع مصرف لبنان والحكومات المتعاقبة؟ هل يحقّ للطبيب القول « أنا أعتذر لقد توفيّ المريض لأنّني تقاعست عن القيام بواجبي المهنيّ؟ »
في المقابل، أصاب أصحاب المصارف في اختيار عنوان بيانهم في نسخته الفرنسيّة « Il faut rendre à César ce qui est à César » (أعطوا ما لقيصر لقيصر). نعم إنّ المجتمع بنقاباته، وصناديقه التعاضدية، وكافّة مواطنيه المودعين وغير المودعين هو قيصر… لكن التّعويض عمّا فقده قيصر في جيبه الأيسر(ودائع في القطاع المصرفي) لا يتّمّ عبر مدّ اليد على ما في جيبه الأيمن(أملاك الدّولة)… التّعويض عن قيصر يفرضه هو بنفسه على تجّار الهيكل الّذين راكموا الأرباح غير آبهين بخراب الهيكل والّذين لا يزالون حتّى اللّحظة يأخذون حاضر ومستقبل المجتمع والاقتصاد (بما فيه القطاع المصرفيّ) رهينةً لمصالحهم الشّخصيّة.
انهض ودافع عن نفسك يا قيصر!
*عضو في حركة مواطنون ومواطنات في دولة