نريد معرفة ما لنا وما علينا من مال وذهب وديون أي مشروع يجب أن ينطلق من معرفة الواقع. حتى الآن، ما زلنا لا نعلم فعلياً ما لدينا من موجودات وما علينا من مستحقات. تهدف الجردة إلى تحديد الموارد المتاحة فعلياً من أجل تأمين حاجات المجتمع الأساسية وإعادة بناء اقتصاد وتشكّل الخطوة الأولى لتحديد حاجتنا للتّمويل تمهيداً لأي مفاوضات مع الدائنِين الخارجيّين والداخليّين. لم تتعرف حكومة الواجهة التي رَئِسها حسّان دياب على الموجودات الفعلية فيما تضمن تقريرها اقتراح لتوزيعها دون أن يكون هذا التوزيع عادلاً أو هادفاً. أما ما فعلته لجنة “تقصي الحقائق” التي رَئِسها نائب من التيار الوطني الحر وشارك فيها ممثلون عن الزعماء الستة من إخفاء لهذه الخسائر فقد رتّب على المجتمع أثماناً باهظة كان يمكن تفاديها لو كان لدى الممسكين بالسلطة مشروعًا واضح المعالم
أي أن تحكمه إرادة سياسية توجهه صوب أهداف اجتماعية اقتصادية متبلورة.
عمليًّا، تشكل التغطية الصحيّة الشّاملة والتعليم المجاني نقطة الانطلاق وأولى الاجراءات العمليّة في هذا الإطار. فتكريسهما كحق للمقيمين، يساهم بكسر شبكات الزبائنيّة التي ترعاها الاحزاب الطائفيّة من مدارس ومستشفيات ودواء، ويهيّئ لبناء اقتصاد منتج، لا يعتمد على تدفّق الودائع لتمويل الاستهلاك ويحدّ من هجرة اللبنانيّين، لا سيّما المنتجين منهم.
أساس الدولة مدنية هو تعاملها مع المواطنين والمواطنات دون أي وساطة. تختلف الوساطة في منطقتنا من العالم بين وساطة عسكرية أو وساطة قومية وعرقية أو وساطة طائفية كما في لبنان. فالطائفية ليست إلا صيغة من صيغ التشكل الاجتماعي، تخلقها وتبلورها وتقضي عليها مسارات التاريخ، وهي في تشكلها وتطورها قد تأخذ اشكالا وسياقات مختلفة في أدوارها وتعابيرها، طبقا للظرف التاريخي الذي تكون فيه. لذا تستمد الدولة المدنية شرعيتها من علاقتها المباشرة بالمواطن وتبني عند تأسيسها تشكل مجتمعي مختلف عن الذي نعرفه الآن.
أولوية بناء الدولة وليدة خيار تبرره قراءة الأوضاع المحلية والإقليمية والعالمية في الظرف التاريخي الراهن، فالدولة، اليوم وهنا، هي حاجة وظيفية للحفاظ على المجتمع. مع العلم اليقين بأن الدولة لا تعدو كونها ترتيباً موضعياً وظرفياً، وبأن هذا الترتيب يمكنه أن يتخذ أشكالاً عديدة متفاوتة الثبات والجدوى والقيمة، وأن تكييف هذا الترتيب هو في صلب العمل السياسي.
الزعماء ليسم اشرارا بالمطلق ولا هم ملائكة، إنما هم حكماً أسرى أدوارهم وبخاصة اتجاه من يسمّونه جماعتهم، ويعنون بذلك المواطنين الذين يرون أن على علاقتهم بالدولة أن تمرّ بطائفة معينة.
يدير هؤلاء الزعماء كيانات مقسومة عامودياً، أيّ أنها تضمّ في صفوفها جميع فئات المجتمع، أي أنّها تجمع افراداً ذات مصالح متناقضة. لذالك يتعذر على أي زعيم، بغض النظر عن مسيرته وخبراته المهنية والسياسية، أن يتخذ أي قرار يتعلّق بالمصلحة العامة، فأي قرار قد يحدث شرخاً ضمن الطائفة الواحدة التابعة ما بين مستفيد من القرار وما بين المتضرّرين.
انطلاقاً من هنا نرى أن الزعيم محكوم بوظيفتين هما 1) إرضاء جميع فئات طائفته وبذلك تلافي اتخاذ أي قرار بالإضافة إلى 2) إرساء شعور بالطمأنينة لديهم، أي بث شعور ثابت بأنه قادر على حمايتهم من الطرف الآخر وتحصيل ما أمكن من الموارد المتاحة.
لا وجود لدولة فعلية في لبنان بل ائتلاف لزعماء طوائف. هؤلاء الزعماء يعترفون بشرعية بعضهم البعض ولكل منهم القدرة على التعطيل متى دعت الحاجة. لا يتصور هؤلاء الزعماء كسب تأييد أو دعم أفراد من الطوائف الأخرى، فتقتصر المنافسة ضمن الطائفة الواحدة.
لذا لدى هؤلاء علاقة تكاملية حيث تغذي قدرة الطوائف بعضها البعض على الفرز وشد العصب، ولكنها أيضا تمنع اللاعبين الأساسيين من الخروج من هذه المعادلة، فيصطدم من يقرر اللعب خارج القواعد الموجودة بمصالح جميع زعماء الطوائف، ويواجَه باستحضار مشروع زعيم آخر من الطائفة نفسها للعب الدور نفسه.
برز مصطلح “كلن يعني كلن” خلال الإنتفاضة الشعبية تعبيراً عن حالة الغضب والرفض لما وصلت إليه الأمور. الايجابي فيه انه يخرج من منطق “8 و14 اذار” المغلوط ويبرز انهما فريق واحد.
من ناحية أخرى، ينطوي هذا الشعار على بعض المخاطر الني ينبغي التنبه لها:
• أولا، قد يعطي الانبطاع أن المشكلة مشكلة اشخاص، لا مشكلة منظومة مما يفسح المجال لوجهات نظر او أحاديث مثل “بهاء أحسن من سعد” او “مصطفى أديب منيح؟” او “لازم يحاسبوا رياض سلامة” او “بدنا حكومة تكنوقراط” لأنها توحي انّنا تخلصنا من “كلّن” بينما الحقيقة غير ذلك.
• ثانيا، قد يُنسينا مسؤوليتنا الشخصية. فاذا كنّا نعي أن السلطة منظومة من العلاقات لا تقتصر على أشخاص ورموز، يصبح الشعار الأصح “كلنا يعني كلنا” شركاء في المسؤولية لأننا كمجتمع ارتضينا بمسار الأمور.
ان توصيف الواقع بدقة مدخل أساسي للتنظيم وتحمل المسؤولية بدل من رميها على أطراف أخرى.
تعززت سلطة الطوائف بعد الإنزلاق إلى العنف في الحرب الأهلية في صراع لم يكن في طبيعته طائفي. هذا الإنزلاق قضى على فرصة حقيقية لتأسيس دولة ومأسس الطوائف بشكل أكثر رسوخا في لبنان، وفتح الباب على مصراعيه لعملية تفتيت الدولة ونشوء الميليشيات المسلحة التي انتجت بأغلبيتها قيادات لم يكن لها أي دور قبل الحرب. تحوّل قادة الميليشيات إلى زعماء طوائف ليلعبوا دوراً سياسياً بعد التوافق الدولي والأقليمي لإنهاء الحرب، وعزز هؤلاء نفوذهم على أشلاء الدولة وصولاً إلى الإنهيار الشامل.
من هنا نرى أن سلطة الطوائف متغيّرة وغير أبدية، وهي تتعزز فقط على جثة الدولة، وتتراجع بتعزيز سلطتها.
الطوائف ليست مجرّد أشخاص يتشاركون نفس المعتقدات الدينية. من وجهة نظر اجتماعية، الطوائف هي تكتلات تنشأ على أنقاض الدولة أو لغيابها، فتُقيم كيانات مغلقة تعمل على تلبية حاجة وجودية وهي حفظ أمن المنضوين تحتها من أي خطر خارجي، فتبديد مصادر القلق ومواجهة التهديدات الوجودية هما العنصران الأبرزان لنشوء التكتلات الطائفية. تخلو الطوائف في بنيتها من أي تنظيمات سياسية فعلية وإنما تقوم بانتداب زعيم توكل له الدور السياسي واتخاذ القرار. تقوية موقع الزعيم داخل الطائفة وتظهير ذلك امام الطوائف الأخرى هو أمر حيوي للدفاع عن مصالحها والوقوف بوجه الزعامات الأخرى.
في لبنان، تكوّن الأنتخابات شكلا من أشكال تجديد البيعة لزعماء الطوائف ولقياس قدرتهم مقابل بعضهم البعض.
عندما نقول إن السلطة منظومة علاقات، فهذا يعني أن المسألة لا تتعلق بعدد من الأشخاص في مواقع محددة يعتقد البعض أن بمجرد إزاحتهم تسقط السلطة. المشكلة الأساسية لا تكمن في الأشخاص إنما في وجود منظومة عاجزة، ووجود هؤلاء الأشخاص ليس إلا انعكاساً لمنظومة العلاقات المجتمعية السائدة، فهم محكومون بممارسة الأدوار نفسها. لذا يصبح ما يسمى بالتوريث السياسي أمراً بديهياً، وتصبح السلطة القائمة على تحالف الميليشيات وأصحاب المليارات متمثلة بزعامات تستمد قوتها وديمومتها من قدرتها على المحافظة على مقومات المنظومة الموجودة.